المواطنـة قيمـة حضاريـة ومناعـة داخليـــة

بقلم: شويدر عبد الحليم

الحلقة الثانية والأخيرة

الإنسان هو كائن اجتماعي يحيا في مجتمعه وسط قوانين وضوابط وآداب، يلتزم بها هو وبني جنسه، ولكي يكون هناك انسجام وتكامل في إدارة شؤون الحياة، وتبعا لهذه العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، وما يكتنف هذه العلاقة من متغيرات سياسية وتاريخية وإيديولوجية، فإن الصورة الظاهرة للدارسين والتي تطبع هذا التفاعل المتواصل بين الأفراد ومجتمعاتهم هي ما اصطلح على تسميته بالمواطنة.
حتى لا تبقى شعارات وتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، وتناسيها وازدراؤها قد يفضى إلى التمرد عليها وإلى نسف للآمال والتطلعات، وعملا بمبدأ «روح القانون في تطبيقه»، فلابد من توفير وتفعيل ميكانيزمات وأدوات تجسيدها على أرض الواقع ممارسة وفعلا، باعتبار الدولة هي الضامن والمسؤول عن ضمان وحماية الحقوق والحريات وترقيتها. واليوم أصبح التحدي والمحك الأساسي يكمن في أن النص عليها في الدستور لا يعني التمتع بالحريات والحقوق، فحقيقة الممارسات والتصرفات قد تعكس مستوى اطراد مراعاة حقوق الانسان والحريات الاساسية وإعمالها واحترامها وتجسيدها بل من واجب الدولة جعلها أمرا للدفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية.
وممّا تقدّم نلاحظ أن هناك جملة من الواجبات الملقاة على عائق الدولة تتمثل بحقوق المواطنين المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تمنح لهم من خلال مواطنتهم ولما يترتب على المواطنين من واجبات اتجاه دولتهم، حيث تعتبر الواجبات المترتبة على المواطنة نتيجة منطقية وأمرا مقبولا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، يوفّر الحقوق والحريات الأساسية المترتبة على المواطنة لجميع المواطنين وبشكل متساو، فمقابل هذه الحقوق تظهر هذه الواجبات التي يجب أن يؤديها المواطنون أيضا بشكل متساو بين الجميع وبدون تمييز لأي سبب من الأسباب التي تم ذكرها سابقا، فهي علاقة تبادلية والهدف منها هو مصلحة الفرد والدولة، وتحسين الأوضاع في المجتمع وتطويره نحو الأفضل، وهذه الواجبات قد ينص عليها القانون، وبالتالي تتحدّد بشكل رسمي وقد تكون هذه الواجبات مفهومة ضمنيا للمواطن فيلتزم بها، ومن بين هذه الواجبات ما يلي:
- واجب دفع الضّرائب للدولة: فالمواطن عندما يلتزم بهذا الواجب يكون بالضرورة مساهما في اقتصاد الدولة، وبالتأكيد أن هذا الدعم في النهاية يعود إليه على شكل خدمات وحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فهي ضرورية لاستمرارية الدولة والمجتمع.
- واجب احترام القوانين: طالما أن القوانين تشرّع عن طريق السلطة التي يقرها الشعب والمخولة بذلك قانونا، وطالما أن هذه القوانين ستطبّق على الجميع بشكل متساو بدون تمييز، فالأمر الطبيعي أن يقوم المواطن باحترام هذه القوانين التي تحقق بدورها الأمن والنظام والحماية المطلوبة، وستؤدي إطاعة القوانين إلى تحقيق المساواة والديمقراطية، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين جميع المواطنين في الدولة.
- ومن الواجبات كذلك الدفاع عن الوطن والسعي والعمل بكل عزم وإرادة ومسؤولية، وروح التفاني والتضحية والثقة من أجل تحقيق تقدمه، وتوفير عوامل حمايته واستقراره ونموه وازدهاره حتى يصبح هذا الوطن قادرا على توفير حياة كريمة وراقية لسائر أبنائه في مختلف المجالات، فبذلك تتعزّز عزّة الوطن والمواطن لأن قوة أي وطن تكمن في قوة وعزة أبنائه.

المواطنة سلوك حضاري

جانب آخر تتجلى فيه المواطنة في السلوك الحضاري أو السلوك المدني من خلال الثقافة البيئية، المرورية وفي السلوك العام والآداب العامة، فاليوم ما أحوج إلى الترفع وعدم الانسياق نحو المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا كغياب الحسّ الحضاري لدى العامة، الظاهر في تصرفات الأفراد والممارسات اليومية التي تلاحظ بأسف شديد، فمثلا صار من الطبيعي جدا أن تجد من يلقي نفاياته من سيارته أثناء سيره في مركبته، ومن يضع النفايات بجانب الحاوية ولا يكلّف نفسه رميها بداخلها. كما أنه من «الطبيعي جدا» أن تجد من يوقف سيارته أمام (مرآب) المنازل أو مداخل العمارات دون أن يهتزّ له جفن أو السطو على الأرصفة وحواف الطرقات من طرف السكان والتجار في أحياء عديدة من مدننا..في ديكور يفسد الطريق العمومي «المرفق العام بدرجة كبيرة»، ويظهر الأنانية الزائدة في حجز أماكن ركن السيارات طوال اليوم بوسائل متعددة، من حجارة وعجلات مطاطية ومتاريس حديدية يضعها أشخاص بمثابة «رمز» على أن المساحة أو المكان محجوز، جعلوها ملكية خاصة..وكثيرا ما تحصل شجارات كبيرة مع من يتجرّأ ويقدم على نزع حاجز يدل على أن المكان محجوز ويحاول ركن سيارته.
من «الطبيعي» أيضا أن يخترق أحد الصفوف والدّور في أي مكان كنوع من الشطارة والحذلقة، كما هناك من يميل بسيارته ذات اليمين وذات الشمال طربا على صوت أغنية يطلقها من سيارته يسمعها سكان الفضاء، ولا غرابة عندما تجد من يسرق الماء أو الكهرباء، ليتنعّم بهما دون أن يخاف عاقبة الفواتير.
ومن الطبيعي أن ترى من الحدائق العمومية كملاذ لتصرفات المشينة لبعض الاشخاص، فلا هو استمتع بها، ولا ترك غيره ليستمتع.
كل تلك الظّواهر وغيرها أصبح شيئا طبيعيا أو ما يعرف بالعامية «نورمال عادي»، وبالتالي لابد أن يقوم المعنيون بالالتفاتة إلى هذا المشكلات، وأصبح من الاهم ومن الواجب على قادة الرأي من العلماء والخطباء والدعاة والكتاب والأدباء وحتى السلطات العمومية أن يعيدوا إحياء الحسّ الحضاري عند الناس، وينبّهوا أن تلك التصرفات لا تليق كشعب وكأمّة تملك تراثا حضاريا ضخما من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ نظام المدينة يفرض احترام المساحات العامة أو المشتركة واحترام الغير..ليجد كل واحد ضالته في بيئة ملائمة.
إنّ التصرف الملائم والمناسب يعطي أريحية لسكان الأحياء، الذين يحتاجون أكثر لتصرفات حضارية من نظافة وتنظيم بسيط واحترام الغير والسلوك الحسن أو الاخلاق الحسنة، فالأخلاق علم غايته تنظيم أعمال الانسان للوصول إلى الدرجة الممكنة من السعادة. صحيح من الصعب بلوغ المدينة الفاضلة، لكن يمكن بتصرفات بسيطة التمتع بحياة روحها المواطنة الحقة والفاعلة.
كما أنّ القيمة الأخلاقية والإنسانية، وتعويد النفس عليها تشكّل أساس السلوك المدني وسبل تنميته بغية اكتساب قيم المواطنة التي تعد عامل بناء في تحقيق التماسك الاجتماعي والتوافق، ومن ثمة التنمية الاجتماعية. وليس الغرض المراهنة على أخلقة سلوك المواطن فقط بل الحاجة لمؤسسات قوية تنظم حياة المواطنين بطريقة تحول الاخلاق الحميدة إلى مصلحة ذاتية يستشعر قيمتها المضافة في حياته اليومية.
 
دور المجتمع المدني في إرساء المواطنة

أصبح المجتمع المدني حاضرا وعنصرا ضروريا في تدعيم العملية الديمقراطية، فهو مجال واسع للنشاط الإنساني وهو كذلك فضاء يتضمن الجمعيات المهنية والثقافية والدينية والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية، النقابات التعاونيات الأحزاب...إلخ، حيث تنشط هذه المؤسسات في مختلف المجالات والميادين، وهي بمثابة وسيط بين المجتمع والسلطة إذ تتيح للمواطن كفرد وكجماعات نوعا من المشاركة المباشرة أو غير المباشرة وبصفة منتظمة سواء كان ذلك في العملية الاجتماعية كالدفاع عن البيئة ومحاربة التلوث، التنمية إلى غير ذلك من النشاطات التضامنية والتطوعية أو في العملية السياسية كالنضال السياسي أو كالعمل الجمعوي والنقابي في العملية الاقتصادية عن طريق النقابات العمالية والتعاونية والجمعيات المهنية. ومن خلال ذلك فهو جامع لمختلف فئات المجتمع لممارسة والتعبير عن آرائهم ومصالحهم خارج مجال عمل الحكومة، كما تضمن لهم ممارسة السلطة الرقابية ومشاركة شعبية قوية وفعالة في صناعة والتأثير على القرارات السياسية والاقتصادية التي تضمن حقوقهم وتصون مصلحتهم ومصالحهم العامة تجاه المجتمع والدولة وتيسير أداء واجباتهم.
وحتى لا تبقى الديمقراطية شعارا وتفعيلها سلوكا لابد ومن الواجب العمل على بلورة هذا المجتمع المدني، والمساهمة في تنظيمه وتحسيسه وتفعيله وإدماجه كركن حيوي وشريك فعال في منظومة الحكم والإدارة في الدولة لترسيخ الحيوية والواقعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للديمقراطية التشاركية في قيادة المجتمع ومؤسسات الدولة، وتنمية ورعاية حركية المواطنة الصالحة، وبناء رأي عام وطني حر وواع وحساس للقضايا والأحداث الوطنية ومتفاعل ومتجاوب معها بكل قناعة وصدق ومسؤولية.
فثمّة مهمة أكثر إلحاح في إحياء وتفعيل هذا المجال الوحيد القادر على جعل المواطنة الحقة أمرا ممكنا، باعتباره فضاء للتدريب والممارسة لأشكال المواطنة الصحيحة التي تنقل الحكمة الشعبية وأداب السلوك اليومي من جيل الى جيل.

دور الإعلام في تأكيد قيم المواطنة

للإعلام بمختلف وسائله السمعية والبصرية والكتابية دور مهم في تدعيم قيم المواطنة، حيث يتجلى هذا الدور في الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها للمواطن كفرد وللمجتمع، فهو بمثابة مصدر الاخبار ووسيلة تبليغ المعلومات وإيصالها لعدد أكبر من المواطنين، وبالإعلام كذلك يتم نشر الحقائق والأفكار والآراء، كما يهدف إلى توفير المعلومات للجمهور في أسرع وقت ممكن، والتركيز على الأخبار والموضوعات التي تهم أكبر قدر ممكن، وتقديم الوقائع والحقائق بصورة مجردة ومهنية، والتحقيق والتأثير في السياسات التي تعلنها الحكومة فيما يخدم المصلحة العامة، وللإعلام كذلك دور هام ومؤثر في المجتمع حيث يسعى وبالاستطاعة تشكيل الرأي العام والحفاظ على النظام العام من خلال التوعية والتحسيس على إحترام المبادئ والمثل العليا، والتي يجب على كل فرد من المجتمع ألاّ يخالفها كاحترام القوانين والآداب العامة، وعدم المساس بأمن الدولة والوحدة الوطنية، فضلا عن ذلك تنمية الاهتمامات الفكرية والثقافية لدى الجمهور، ولكي يفلح الإعلام في تحقيق قيم المواطنة لا بد أن يكون ذاته في محتوى وسائله وممارسته وأشخاصه مستوعبا لمعانيها وجوهرها، متمثلا لقيمها وفلسفتها وآدابها، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.

أهمية التّربية والتّعليم في تدعيم المواطنة

يعتبر التعليم حقا في حد ذاته، ويمثل في جميع أبعاده حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وعدم احترام هذا الحق بمثابة حرمان من التمتع بالحقوق الأخرى لأن الجهل الناتج عن عدم وجود تعليم كامل وتام يحرم الإنسان من كرامته وسبل الاعتراف بشخصيته وحقوقه، حيث يهدف التعلم إلى تنمية شخصية الفرد ومواهبه وقدراته العقلية والفكرية، كما يجب أن تكون غايات التعليم موجّهة نحو تلقين وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ العالمية، وإحترام الفرد لذويه ولثوابته وقيمه الخاصة والقيم الوطنية، كما يهدف التعليم إلى تنمية الشعور الوطني والمساهمة في تنمية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، وتنمية الحس بالمسؤوليات الأخلاقية والاجتماعية، وتنمية الحس النقدي وتكوين الرأي الشخصي وإعداد الأفراد لحياة تستشعر بالمسؤولية في مجتمع حر بروح من التفاهم والتسامح والمساواة والصداقة بين جميع أعضاء المجتمع، فضلا عن ذلك تلقين احترام الراي الآخر ومبادئ الحوار والتبادل، إذ يحق للمرء أن يتساءل كيف يمكن للديمقراطية البقاء إذا كانت مدارسها وكلياتها والأجهزة التربوية الاسرة ووسائل الإعلام تتجنب مهمتها الأخلاقية في غرس قيم المواطنة؟
فعلى مؤسساتنا التعليمية أن تقوم كمؤسسات مدنية تعلم الحضارة والتربية المدنية، وتعمل بإخلاص في تعميق أنظمة القيم والمقومات الوطنية، وأن تقاوم التسيّس، فالجامعات عليها أن تقدّم في الإطار الواسع لأنشطتها المختلفة إمكان التوازن بين التقدم التكنولوجي السريع والثقافة الإنسانية الشاملة في نفس الوقت، فالجامعات المطلوبة هي تلك التي تسعى إلى أن تجعل من كل قدرة عقلية ضميرا، أي التزاما شخصيا إزاء المجتمع الذي توجد فيه وتقوم بخدمته. وتأسيسا لما ذكر، فإنّ للتربية والتعليم دور فعّال في تدعيم المواطنة الحقّة باعتبارهما التنشئة والمساهمة في التنمية الكاملة للفرد المستقبل المتعاون المسؤول والملتزم الذي تتحقّق فيه صفات المواطن الصالح، الفرد القادر على اتخاذ قراراته وإدارة شؤون حياته الخاصة والمهتم بالآخرين الذين يعمل معهم ولأجلهم والقادر على تحمل تبعات القرارات التي يتخذها ونتائجها، وأن يلتزم بتنفيذها والعمل على احترام ما يتفق مع قيمه ومساندة المثل التي يرى أنها ذات شأن، كما ينبغي أن تسعى التربية على المواطنة إلى تحقيق أهداف تتجلى في تثبيت قيم اجتماعية وأخرى فردية، وفي تدعيم مجموعة من المبادئ منها على الخصوص: احترام مقدسات الوطن والتعامل مع قضاياه بقيم إيجابية والمسؤولية في كامل الثقة بالنفس، حب العمل والتفاني فيه، أملا في رفع مردودية المجتمع وإنتاجيته الاقتصادية والثقافية حتى يرتقي في العيش إلى أعلى المراتب.
كما تتوخى التربية على المواطنة بلوغ أهداف على المستوى العملي، وكذا على المستوى الوجداني، فالمبتغى هنا ومن هذه الوقفة هو التشجيع وتعزيز قيم المواطنة بشقيها المتمثلين في الحقوق والواجبات كوجهين لعملة واحدة، والتمتع بهذا الإحساس تتعزّز ثقافة أداء الواجبات قبل أخذ الحقوق وتترسخ قيم القوانين، وكذا تكوين المواقف الإيجابية التي تخدم المواطنة النشيطة وخير ما قيل في التربية: «وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة».
في الختام إنّ الانجازات الحقيقية التي يمكن لأي مجتمع أن يفتخر بها ليست فقط تلك الانجازات المادية من منشآت ومؤسسات، وإنما هي تلك الإنجازات التي تتعلق بتكوين الانسان وتنوير فكره وعقله، وتهذيب عاداته وسلوكه. ومن البديهي أن نؤكّد أنّه لا يستقيم الطموح لبناء المشروع الحضاري ومحاولة التأسيس لثقافة التغير دون توفر الأسباب النفسية والتربوية لهذا التغير، ذلك أنّ الأمر هنا يتعلق بكيفية تمكين المجتمع لسلوك حضاري صالح ومواطن فاعل مفيد للمجتمع، والأكيد أنّ الاشتغال على إصلاح البيئة المساعدة على التغير قد يكون مقدمة حتمية لأي محاولة جادة.
المواطنة لا تعني، في أي حال من الأحوال، طمس الفروق ونفي الاختلاف وإلغاء المصالح الخاصة المتعارضة، بل تعني إعادة بناء الوجود الاجتماعي على مشتركات لا تفاوت فيها بين الأفراد والجماعات ولا تنازع عليها، من دون حذف أي صفة من صفات غير المشتركة، والمواطنة أو الوطنية، وهما بمعنى واحد، هي الشيء المشترك بين جميع مواطني الدولة بعينها، والانسانية هي الشيء المشترك بين جميع بني آدم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024