قراءة سوسيولوجية

المجتمع الجزائـري في ضوء جائحـة كــورونا

د.وسيلة عيسات

ما سنقوله في هذه الورقة لا يمكن اعتباره دراسة ابستمولوجية بقدر ما هو مجرد ملاحظات نظرية وافتراضات طالما لن نقم بعد بدراسة ميدانية لفهم وتحليل الواقع. لأول مرة يمكننا الحديث عن ظاهرة شكلت مفترق الطرق للعالم برمته ووحدت جهوده في مواجهة ظاهرة من مظاهر التغير الاجتماعي التي أحدثت تأثيرات متفاوتة داخل مجتمعاته ودون أدنى سابق إنذار وبنفس الشكل، إنه جائحة كورونا او Covid 19.

أستاذة محاضرة بجامعة عبد الحميد ابن باديس/ مستغانم
على عكس أطروحة رايت ميلز Wright Mills حول الخيال السوسيولوجي أو الاجتماعي، والتي مفادها ضرورة التفكير في مشاكلنا الشخصية بمعزل عن المجتمع والعالم (الخوف من الإصابة بفيروس كورونا والعدوى) خاصة وأنه لم يسبق وأن ربطنا مشاكلنا الخاصة الفردية بالقضايا الكبرى للمجتمع وهذا ما يميز هذه الجائحة التي تشكل وباءا مجتمعيا وعالميا وحد العالم. هذا الواقع الذي فرض عليها ولا تمتلك لحد الآن سوى تأويلات لسبب حدوثه، هل هو من صنع المختبرات البشرية، أو سلاح بيولوجي، أو سبب حدوثه وانتشاره هو ديني محض.
هذه الظاهرة التي لم تسبق من قبل ولم يتوقعها ويتنبأ بها أحد من العلماء ولم يستطع مواجهتها والتصدي لها في بداياتها حتى أكبر وأقوى الدول والتي كانت تشكل مركز قوة العالم. وبالتالي يمكن لهذه الظاهرة من تغيير مسار العالم كليا بدـاية بتغيير موازين القوى العالمية، تغيير كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية للأفراد، إدخال العالم في ضرف جديد مختلف -لا نعلم اذا يمكننا القول عليه استثنائيا- سوف يتشكل بناءا عليه نمط وشكل جديد من الاجتماع والتفاعل البشري في حالة ما إذا لم نتمكن من التحكم فيه والقضاء عليه وظل لفترات أطول وهو ما نلاحظه بزيادة عدد الاصابات اليومي وعدد الوفيات. وعليه سيكون دور المجتمع دورا مختلفا تماما في هاته المرحلة، هذا الدور الذي يقوم في الاساس على التعاون مع الافراد داخل كل مجتمع. فإذا ما استعرنا ما عبر عنه عالم الاجتماع بيير بورديو بعمل المجتمع على نفسه Le travail que fait la société sur elle-même فنحن فعلا امام تحدٍ كبير لمواجهة هاته الظاهرة التي يمكن اعتبارها اجتماعية. ما الذي يجب تغييره وما الذي يجب تبنيه من قيم جديدة لتفادي انتشار الظاهرة، أو على حد تعبير آلان توران أن يكون المجتمع واعيا بذاته وقادرا على تغيير نفسه وتبني حركات تغييرية ولكن بمفاهيم ثقافية، او تغيير بالمقابل طرفي المعادلة واستبدال النموذج السياسي بالنموذج الثقافي بعدما كنا نتساءل إذا نحن فعلا أمام جائحة كورونا أم جائحة سياسية، وبالتالي فالعلاقة بين الدولة والمجتمع في هذه المرحلة ستختلف كليا وعمل المجتمع سيكون أقوى كما ظهر ذلك في الحراك الاجتماعي والسياسي مؤخرا، أما عمل ودور الدولة فسيكون قائما بالدرجة الاولى على الضبط والمراقبة وتطبيق القوانين التعليمات.
فيروس كورونا وتغيير أشكال النظام والتفاعل الاجتماعي: التباعد الاجتماعي
لقد أدت المرحلة الانتقالية التي فرضتها جائحة كورونا وعملية التغير الاجتماعي التي أحدثتها إلى بروز وتبني ظواهر اجتماعية وأشكال تفاعل مقابل تراجع ظواهر وأشكال أخرى كانت قائمة، فلقد أبرزت في العالم برمته واقعا اجتماعيا جديدا قائما على مسألة التباعد الاجتماعي في العلاقات اليومية التي كانت تقوم على التفاعل والترابط، هذا الواقع الجديد الذي أفرزته هذه الظاهرة لعبت فيه وسائل التواصل الاجتماعي دورا محوريا في نشره وانتاجه. لقد أدت هذه الأزمة العالمية الصحية الى تغيير الواقع عما كان عليه وبدأت سلوكيات وتصورات وقيم تظهر في المجتمع الجزائري والعالم ككل نتيجة للتغير والتحول القسري الذي سببته الجائحة خاصة في انماط التفاعل والتضامن بين الافراد.
تسببت جائحة فيروس كورونا والتفشي المتسارع له منذ ظهوره إلى غاية اللحظة في مختلف بقاع العالم بالشلل بعد التأثير العميق الذي أحدثته وفي مختلف المجالات الاجتماعية، الاقتصادية، التعليمية، تقليص حركة الأفراد وتفاعلهم وحريتهم من خلال تطبيق الحجر الصحي في المنازل ومنع تنقلهم، غلق مختلف الحدود الجوية والبرية والبحرية بين الدول، إلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي. فما لاحظناه أن جائحة كورونا من شأنها التأثير في علاقات الأفراد بعضهم البعض، وسياسة التباعد الاجتماعي تؤدي إلى إعادة تشكيل وبناء العلاقات والتفاعلات الاجتماعية بين الافراد. (سياسة التباعد الاجتماعي أو التباعد الجسدي هي تدابير تتخذ للحد من انتشار عدوى الامراض الخطيرة والتي من شأنها أن تتوقف لمجرد التباعد وعدم احتكاك الافراد). هذه الظاهرة الجديدة أنتجت أنواعا أخرى من الاتصال القائم على وسائل التواصل الاجتماعي أو الاتصال الافتراضي الذي ساهم فعلا في تطبيق تدابير التباعد الجسدي والاجتماعي خاصة مع ضرورة تطبيق سياسة الحجر الصحي الذي فرض على الأفراد. وبالتالي فالتباعد الاجتماعي ما هو إلا نوع من التدابير الصحية التي تعوض الادوية في حالة غيابها للوقاية والحد من انتشار الفيروس.
لكن الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي من شأنه أن ينتج موجة غضب في أوساط الأفراد خاصة الطبقات المتوسطة ذات الدخل المحدود واليومي وبالتالي خلق نوع من اللامساواة، فمنعهم من الخروج معناه منعهم من العمل والكسب اليومي وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه هل المجتمع الجزائري قادر على سد هاته الثغرة؟ هل هو قادر على سد وتوفير حاجيات الطبقة الفقيرة وإعانة الأفراد المتواجدين خارج نطاق العمل الرسمي؟
 هنا تظهر اشكالية التكفل بالفئات الهامشية التي لا تملك قوت يومها وهذا ما لاحظناه فعليا في المجتمع الجزائري خاصة بعدما اصدر رئيس الجمهورية تعليمة صرف عشرة آلاف دج للأفراد الذين توقفت أعمالهم كليا والذين لا يملكون أجرة شهرية ثابتة. لقد أظهرت لنا الجائحة ربما أننا لا نملك للأسف سياسة توفير الامكانيات لمواجهة أية أزمة متوقعة سلفا عكس الدول المتقدمة حتى وإن لم تتمكن من توفير اللقاح فهي استطاعت أن توفر أدنى متطلبات الحياة للأفراد أثناء الحجر الصحي المنزلي نظرا لقوة اقتصادها، عكس الدول النامية ونظرا لضعف اقتصادها فهي لن تتمكن من توفير متطلبات الحجر المنزلي مما سيؤدي إلى زيادة الفقر وهشاشة البنية الاقتصادية مما سيتولد عنه ثورات احتجاجية وحراك شعبي جديد. ثم احتمالية تخفيف الحجر كما حدث في المجتمع الجزائري والسماح للأفراد بالخروج لمزاولة مهنهم وبالمقابل ارتفاع جديد في نسبة الاصابات والوفيات واتهام السلطة وانتقادها من طرف الفئات الاجتماعية بعدم القدرة في التحكم في الوضع وتعريض المجتمع للخطر.
إنها فعلا حرب، السلاح فيها موجود وقوي يؤدي إلى حصاد عشرات الموتى يوميا بل الآلاف والملايين في بعض المجتمعات التي تزعم أنها متطورة لكن بدون مقاتلين. وبالتالي فقد أظهرت الجائحة تخوف وضعف الدول في التصدي ومقاومة الفيروس حتى الدول التي كانت تعتبر محل قوة وتطور، بالرغم من المحاولات المتعددة لإيجاد علاجات لمقاومته والحد من تفشيه المتزايد يوميا.
جائحة كورونا وإشكالية تحديات التعليم عن بعد كيف نقدم معرفة علمية حتى من خلال التباعد الاجتماعي المفروض؟
لقد فرض علينا فيروس كورونا حالة من الرعب والخوف من إمكانية حدوث العدوى بأي طريقة استوجبت على الأفراد تبني سلوكيات عاجلة وإحداث تكيفات معها. كما قامت الدولة بعد تعليق الدراسة بسياسة التعليم عن بعد، فما كان على الاستاذ إلا اتخاذ مجموعة من التدابير بالتعاون مع التعليمات المفروضة من وزارة التعليم العالي والجامعات لتدارك تأخر الطلبة في الدروس المتعلقة بالسداسي الثاني سواء باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي او عن طرق إرسال المحاضرات من خلال البوابة التي وضعتها الوزارة والخاصة بكل جامعة وعليه كان بإمكان الأستاذ أن يبدع في أشكال إيصال محاضراته للطالب مستمدا إياها -لما لا- من ظاهرة كورونا في حد ذاتها خاصة ما تعلق بمحاضرات علم الاجتماع. هنا يدخل الدور الذي يجب أن تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي وكيفية التعامل معها. لكن هناك ما هو أقوى من إمكانية الاستاذ والجامعة، إنه الطالب في حد ذاته، والامكانيات المتوفرة لتحقيق هذا التحصيل. هل كل طالب يملك انترنت في المنزل؟ هل قوة تدفق الانترنت كافية لولوج الطالب -أو حتى الاستاذ- المنصة التي وضعتها الوزارة؟ هل سيكون هناك فعلا تحصيل علمي؟
لقد بين لنا فيروس كورونا فعلا أننا حقا غير قادرين على التحكم في هذه التقنيات والعمل بها خاصة ما تعلق بمسألة التعليم عن بعد، لكن يبقى كحل مؤقت بديل في ظل هذه الجائحة لتفادي زيادة انتشارها خاصة في الجامعات والأحياء الجامعية.
لقد غير فيروس كورونا العديد من تصوراتنا لواقع الحياة المعيش بدءً بحرية التنقل والخروج إلى تطبيق عملية الحجر الصحي بالمنازل، مرورا بالخسائر الاقتصادية وتغيير السياسات العالمية. وبالتالي سيكون سببا رئيسيا لتغيير تاريخ العالم من خلال تأثيره كذلك على الوعي. هذا الوعي الذي يدخل ضمن استراتيجية الدولة والمرتبط أساسا بثقافة الأفراد حول العديد من المسائل والقوانين التي يجب عليهم احترامها وتطبيقها باعتبارها الوقاية الاساسية والوحيدة في غياب العلاجات ضد فيروس كورونا، من بينها وكما سبق الذكر مسألة الحجر الصحي والبقاء في المنازل لتفادي حدوث العدوى وبالتالي حماية الذات والآخر، لكن للأسف لا نملك في مجتمعاتنا هذه الثقافة وبالتالي كان الحجر في بعض الأحيان بالقوة وهذا ما أدى إلى حدوث العديد من المشاكل الأسرية وانتشار العنف المنزلي سواء بين الأزواج أو بين الأبناء.
كما أدى هذا الوباء إلى تغيير الأفراد لما نسميه بالعادات الفردية. فكثير من العادات والممارسات التي تعودنا عليها علينا تجاوزها والابتعاد عنها كالاختلاط الاجتماعي، الزيارات، اللقاءات. وبالمقابل هناك ممارسات علينا تعلمها وتبنيها كالابتعاد الاجتماعي، النظافة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، لباس الكمامات، استعمال المطهرات. بالمقابل هناك مفارقة يجب الحديث عنها حول وسائل التواصل الاجتماعي والتي كانت تعتبر من أهم وسائل التباعد الاجتماعي قبل حدوث هذا الوباء، أصبحت تساعد اليوم في زمن تطبيق التباعد الاجتماعي الوسيلة الوحيدة والأساسية للتواصل بين الأفراد عوض الالتقاء باستعمال مواقع التواصل الاجتماعي فقط وبالتالي تطبيق التباعد الاجتماعي حتى بين أفراد الاسرة الواحدة.
لقد أثر فيروس كورونا على المدينة باعتبارها ساحة للتفاعلات الاجتماعية وذلك من خلال التغيير الفعلي لشكل النظام الاجتماعي وتحول العلاقات والتفاعلات الاجتماعية بين الافراد. ما يمكن توقعه في هذه المرحلة بعد تفشي فيروس كورونا أن العالم لن يكون كما كان عليه خاصة من الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أين وجد الافراد أنفسهم أمام تغيير جذري لنظامهم الاجتماعي وشكل روابطهم الاجتماعية كل هذا أمام ضعفنا وهشاشتنا أمام مقاومة الأوبئة لسبب واحد وهو غياب التخطيطات الاستراتيجية لمقاومة الكوارث المتوقعة، ونقص الاهتمام بالبحث في العلوم الاجتماعية والانسانية وعليه فهذه المرحلة تقتضي حقا تطوير البحث العلمي ووضع استراتيجية للحماية من الأمراض والأوبئة مستقبلا. إضافة إلى ضرورة انتاج الوعي الفردي والجماعي الذي من شأنه الحد من تفشي الظاهرة والداعي إلى ضرورة تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي بالدرجة الأولى، والذي ولدته في الأساس مواقع التواصل الاجتماعي حتى قبل جائحة كورونا.
عن مجلة فواصل- العدد التجريبي

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024