تحصّل على أول “سعفة ذهبية” عربيّا وإفريقيّا..

محمـد لخضـر حمينــة.. رحيـل رجــل كبـير

فاطمة الوحش

حين يغيب الكبار، لا يغادروننا كما يرحل الآخرون. هم لا يرحلون تماما، بل يتحول غيابهم إلى صدى، إلى سؤال مُعلق، إلى لحظة فراغ تعجز عن احتوائها الكلمات. يغيبون كما تنسحب الأمواج من الشاطئ في صمت، تاركة أثرها في الرمال والقلوب. هكذا كان رحيل لخضر حمينة، الرجل الذي لم يكن فقط مخرجا كبيرا، بل ضميرا بصريا للجزائر، وروحا فنية عرفت كيف تترجم الوجع والكرامة في آن واحد.

كان حضور المخرج الكبير لخضر حمينة أكبر من الشاشة، وصوته أعمق من الحوار، لأنه كان يرى في الصورة ما لا يراه غيره، ويمنحها القدرة على النطق بالحقيقة دون شعارات. حين نعى الجزائريون والعرب رحيله، لم يكن الحزن على شخص فقط، بل على زمن كان فيه الفن التزاما، وكانت السينما ميدانا للنضال..منذ ظهوره الأول، بدا حمينة مختلفا. لم يبحث عن الأضواء، بل صنعها. لم يسعَ إلى الجوائز، بل جاءت إليه لأنها وجدت فيه ما يستحق. وحين وضع الجزائر على خريطة السينما العالمية، لم يفعل ذلك حبا في المجد الشخصي، بل إيمانا بأن للفن دور في بناء الأوطان.
ولد لخضر حمينة سنة 1934، في زمن كانت فيه الجزائر ترزخ تحت استعمار طويل، وقد ولدت معه مبكرا تلك الرغبة في قول شيء مختلف عن هذا العالم المظلم. لم يركن إلى السرد التقليدي، بل اختار طريقا صعبا منذ البداية، حين التحق بالمدرسة العليا للسينما في براغ، واحدة من أبرز الحاضنات الفنية آنذاك في أوروبا الشرقية. هناك، تشرب مبادئ الواقعية السينمائية، وتعلم أن الصورة يمكن أن تقول ما لا تقوله الكلمات، وأن السينما ليست ترفا ثقافيا، بل ساحة نضال وسؤال واحتجاج.

 كـــيـف حول حميـنة الصورة إلى طلـقـة حريـة

بعد الاستقلال، وجد حمينة نفسه في قلب معركة جديدة “بناء هوية سينمائية جزائرية تعبر عن شعب خرج لتوّه من معركة تحرير دامية، وتبحث عن صوتها الخاص”. لم يتأخر في اتخاذ موقف واضح بوجوب أن تكون السينما امتدادا للثورة، لكنها في ذات الوقت لا ينبغي أن تتحول إلى أداة دعائية جوفاء. بهذا الوعي، بدأت رحلته الطويلة، التي كلّلها عام 1975 بفيلمٍ لم يعد من الممكن الحديث عن السينما الجزائرية بدونه “وقائع سنين الجمر”.
ليس من المبالغة القول إن تتويج لخضر حمينة بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان”، كان لحظة تأسيسية للسينما العربية والإفريقية. لم يكن مجرد انتصار فني، بل حدثا ثقافيا فارقا. الفيلم لم يرو فقط حكاية مرحلة مظلمة من تاريخ الجزائر، بل قدّم سردية بصرية كثيفة ومركبة، استخدم فيها الضوء والظل، الصوت والصمت، الحركة والسكون، لصياغة عمل يقرأ كما تُقرأ الروايات العظيمة، ويشاهد كما تشاهد اللوحات الكبرى. لقد أصر حمينة على إخراج الفيلم بلغته الخاصة؛ مشاهد طويلة محسوبة بدقة، إيقاع داخلي لا يستجيب لقواعد السوق، بل للحالة الدرامية. استخدم الكاميرا كما يستخدم الرسام فرشاته، لا ليصف، بل ليحفر في ذاكرة المتلقي، ويوقظ فيه إحساسا عميقا بما حدث، وما يمكن أن يحدث. حيث قال عنه الناقد ابراهيم العريس ضمن سلسلة مقالات انتصارات عربية إنه “واحد من أهم الأفلام التاريخية الأضخم التي نجحت خارج هوليوود”.

وفـــاء للقناعــــــات..

لم يكن “وقائع سنين الجمر” نهاية مسار حمينة، بل بداية لتجربة أكثر عمقا. ففي أفلامه التالية، مثل “رياح رملية” و«الصورة الأخيرة” و«غروب الظلال”، حاول حمينة استكمال مشروعه الفني، وإن في ظروف أصعب. حافظ على ذات الروح، البحث عن المعنى، ومحاولة تقديم سردية جديدة للواقع، دون الوقوع في التكرار أو الانجرار وراء متطلبات السوق.
تميّز المخرج بأسلوب بصري فريد، يوازن بين الجمال والتوتر، بين الواقعية والرمزية. لم يكن يعتمد على الحوار، بل كان يؤمن بأن المشهد يمكن أن يحمل دلالته دون شرح. هذا الوعي الشكلي لم يكن زخرفيا، بل كان جزءا من موقفه من السينما، باعتبارها فنا مستقلا له لغته الخاصة.
ومن الناحية التقنية، كان حمينة من أوائل المخرجين الجزائريين الذين فهموا أهمية العلاقة بين السيناريو والتصوير، بين الإضاءة والحالة الدرامية، وبين الموسيقى والفراغات البصرية. لقد أدرك مبكرا أن السينما الحقيقية تتجاوز “الحدوثة” لتكون بناء فنيا متماسكا.
في حوارات نادرة، كان حمينة يوضح فلسفته بقوله: “أنا لا أريد من الفيلم أن يُريح المشاهد، بل أن يُقلقه قليلا. الفن الحقيقي ليس مخدّرا، بل زلزالا ناعما.”هذه الرؤية تلخّص مقاربته السينمائية، التي جعلت منه صانع أفلام لا يهادن ولا يتنازل.
لم يكن حمينة كثير الظهور، لكنه كان حاضرا بقوة في ذاكرة الأجيال السينمائية..استلهم كثير من السينمائيين الجزائريين والعرب من تجربته مفاهيم الالتزام والدقة، والبحث عن لغة سينمائية خاصة. لم يُدرِّس في المعاهد، لكن أعماله كانت دروسا بليغة لكل من أراد أن يشتغل على الصورة بصدق.
قال عنه الناقد أحمد بغداد: “يتضح لنا جليا أن حامينه يمثل نموذجا حقيقيا للمخرج العالمي، ويمكن تصنيفه مع “لويس بونيل” الإسباني، أو “فرانسوا تريفو” الفرنسي، وكذلك “جون لوك غودار..”، كما لاحظ بغداد أن جل أفلام لخضر حمينة، ما عدا فیلم “حسان الطيرو”، ترتبط ارتباطا وثيق الصلة بذكريات المخرج أو عالمه النفسي، وقد استطاع بمهارة أن يحول تلك الذكريات إلى أعمال سينمائية رفيعة المستوى، بل إن جل أعماله لقيت استحسانا في المحافل الدولية.

أثـر لا يذبــل..وسينــما لا تســـاوم

لم يكن الاعتراف بلخضر حمينة محصورا داخل الجزائر فقط، فقد كرّم في عدة تظاهرات دولية، ونال “وسام الفنون والآداب” من فرنسا، كما احتفت به مهرجانات كبرى في القاهرة ودمشق وقرطاج، واعتُبر دائما مرجعا للسينما ذات الرؤية الملتزمة. وقد مُنح وسام الاستحقاق الوطني في الجزائر تقديرا لمسيرته المتميزة.
كان لخضر حمينة يرى أن المخرج لا يصنع أفلاما وحسب، بل يحمل مشروعا، ويقف خلف فكرة، ويدفع ثمن اختياراته. لهذا لم يسع إلى كسب رضا المؤسسات أو الأسواق، بل فضّل أن يمضي في طريقه، بصبر الفنان، وإصرار المثقف الملتزم. وقد كلّفه هذا الكثير، لكنه لم يندم يوما، لأن ما تركه من أثر كان دائما أعمق من الشهرة المؤقتة.
ووري الثرى، جثمان المخرج الكبير لخضر حمينة بمقبرة سيدي يحيى بالعاصمة، في جنازة مهيبة شهدت حضور عدد من الشخصيات الرسمية والثقافية، إلى جانب أفراد عائلته وأصدقائه ومحبّيه، الذين جاؤوا لتوديع الرجل الذي منح السينما الجزائرية مكانتها في العالم، وترك أثرا لا يُمحى في ذاكرة الصورة والتاريخ.
وسط لحظات من التأثر العميق، بدا أن الوداع لم يكن لفنان فقط، بل لمرحلة كاملة من الالتزام الجمالي والصدق الفني. لم تكن الكلمات كافية لتختصر تجربة بحجم حمينة، لكن الصمت الذي خيّم على وجوه الحاضرين، والدموع التي انهمرت في صمت، كانت أبلغ من أي رثاء. لقد غاب الجسد، لكن الروح التي حرّكت الكاميرا، وبنت عالما من النور والظلّ، ستظل حيّة في كل لقطة، وكل حلمٍ سينمائي قادم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19781

العدد 19781

الأحد 25 ماي 2025
العدد19780

العدد19780

السبت 24 ماي 2025
العدد 19779

العدد 19779

الخميس 22 ماي 2025
العدد 19778

العدد 19778

الأربعاء 21 ماي 2025