بين الاستفادة من التكنولوجيا والحفاظ على جوهـر الإبـداع

هل يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل المشهـد الأدبي؟

أسامة إفراح

شهدت السنوات الأخيرة تطورا سريعا في مجال الذكاء الاصطناعي، هذه التكنولوجيا التي أصبحت، في ظرف وجيز، جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، بما في ذلك المجالات الإبداعية كالأدب، والكتابة الإبداعية بشكل عام. وقد صارت العديد من الأدوات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي توظف في مساعدة الكتاب على توليد الأفكار، وصياغة النصوص، وتحرير المحتوى. ومع هذا التطور، تبرز مجموعة من التحديات التي تؤثر على جودة وخصوصية العملية الإبداعية.

رغم أن الذكاء الاصطناعي حديثا يمر بقفزات كبيرة في قدراته، خاصة بعد ظهور “النماذج اللغوية الكبيرة”، إلا أن استخدامه في المجال الإبداعي، مثل كتابة الروايات والمسرحيات والشعر، ليس فكرة جديدة..

مشاريع تجريبية رائدة

ومن الأمثلة على ذلك في مجال المسرح، نذكر مسرحية “Sunspring” (شروق الشمس) وهي مسرحية قصيرة أمريكية كُتبت، في 2016، بالكامل بواسطة نموذج ذكاء اصطناعي يسمى “Benjamin”، وهو شبكة عصبية متكررة، مع إخراج بشري لتحويل النص إلى أداء تمثيلي.
وشهد نفس العام، ولكن في اليابان، مشروع “The Day A Computer Writes A Novel” (اليوم الذي يكتب فيه الكمبيوتر رواية)، حيث استخدم الذكاء الاصطناعي للمساعدة في كتابة رواية قصيرة شاركت في مسابقة أدبية يابانية، ووصلت إلى المرحلة النهائية، وهو ما أثار حينها جدلا ونقاشات كبيرة حول مستقبل الأدب المدعوم بالتقنيات الآلية.
بعدها بعامين، أي في 2018، ظهرت رواية “1 The Road” التي استخدم فيها المبرمج “روس غودوين” خوارزمية GPT-2 لتوليد نص سردي يحاكي رحلة عبر الولايات المتحدة، وفي غياب السرد المتماسك والحبكة الواضحة، اعتبرت نصا تجريبيا عكس إمكانات الذكاء الاصطناعي في توليد الأدب.
ولم يخلُ مجال الشعر من تجارب مماثلة، ولعلنا نذكر مشروع “ReRites” الذي أطلقه الشاعر الرقمي “ديفيد جيهف جونسون” بين 2016 و2019، حيث استخدم نموذجا لشبكة عصبية لتوليد نصوص شعرية، ثم قام بتعديلها يدويا، ليفوز بجائزة “روبرت كوفر” للأدب الإلكتروني عام 2022.
وهناك أيضا المشروع البحثي والإبداعي الكندي “Bot or Not)”2021) الذي جمع نصوصا شعرية مولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وقيّمها نقادٌ وشعراءُ محترفون لمقارنة جودة الشعر الآلي مع الشعر البشري، موضحًا تقاربا كبيرا في الأسلوب في بعض الحالات.
جميع هذه الأمثلة عن أعمال أدبية استخدم فيها الذكاء الاصطناعي تدل على أن الإبداع الآلي بدأ قبل سنوات، لكن التطورات الكبيرة في جودة النصوص والتفاعل البشري مع الآلة جاءت مؤخرا مع تطور نماذج اللغة العميقة.

طريـق تملؤهـا العقبـات

صحيح أن تدخل الآلة في الكتابة الإبداعية ليس وليد الساعة، وأن هذا المجال ما فتئ يشهد طفرات نوعية كل يوم، ولكن الكثير من الدراسات الجادة تؤكد وجود الكثير من العقبات على طريق “أتمتة الإبداع”.
من بين أوجه النقص هذه، فقدان الأصالة وتكرار الأنماط الإبداعية، حيث تشير دراسة جامعة “إكستر” حول الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي (2024) بقيادة الباحثة “سارة جونسون”، إلى أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدرته على توليد نصوص إبداعية، يميل إلى إنتاج محتوى متكرر ومتقارب في الأنماط، لاعتماده على قواعد بيانات ضخمة تحتوي على نصوص سابقة.
وتوصلت الدراسة إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يزيد من الكفاءة الإبداعية لدى المستخدمين الجدد الذين يفتقرون للخبرة، لكنه يقلل من التنوع والابتكار، إذ تعكس النصوص المُولدة “أفكارا مستهلكة” أو أنماطا مألوفة.
مسألة التأثير على التنوع الإبداعي في الأدب أكدتها دراسة نشرتها جامعة “تورنتو” العام الجاري 2025 على أرشيف “arXiv”، توضح أن الذكاء الاصطناعي قد يعزز الكفاءة التقنية في الكتابة، لكنه قد يقلل من التنوع في الأساليب والسرد بسبب اعتماده على أنماط متكررة من البيانات. ويشير الباحثون إلى أن هذا يمكن أن يؤدي إلى “تجانس” في الإنتاج الأدبي وفقدان الأبعاد الفريدة التي تميز الكتابة البشرية.
ومن النقائص أيضا، التحديات القانونية والأخلاقية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، إذ يُعد استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة موضوعا قانونيا معقدا، وفي هذا السياق، حق لنا أن نتساءل: من يمتلك حقوق النصوص المُولدة؟ وهل تعتبر من أعمال الكاتب الأصلي أم من عمل الذكاء الاصطناعي؟
مثلا، في ديسمبر 2023، رفعت صحيفة “نيويورك تايمز” دعوى قضائية ضد شركة “OpenAI” بتهمة استخدام محتوى محمي بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون الحصول على ترخيص. أما في عالم السينما، فقد انتقدت نقابات الكُتاب استخدام النصوص التي أنتجتها نماذج الذكاء الاصطناعي في كتابة سيناريوهات أفلام.
ويمكن لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الإبداع أن يؤثر على مهارات الكتابة لدى الطلاب والكتّاب المبتدئين. تضمن تقرير صادر هذا العام عن مؤسسة “جيسك” (المملكة المتحدة)، استبيانا شمل آلاف الطلاب الجامعيين حول استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في كتابة الأبحاث والواجبات. وخلص التقرير إلى أن الاستخدام المفرط لتلك الأدوات أدى إلى تراجع ملحوظ في مهارات التفكير النقدي والكتابة الأصلية لدى الطلاب، حيث اعتمد كثير منهم على الذكاء الاصطناعي لإتمام الواجبات، ما أثر سلبا على قدرتهم على التعبير عن أفكارهم بشكل مستقل. وقد أدى هذا بالعديد من الجامعات في العالم إلى اعتماد تقنيات الكشف عن النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي.
وحتى تقنيات الكشف الحالية غير كافية ونتائجها ليست موثوقة، وهو ما أكدته أبحاث أجرتها جامعة “ستانفورد” العام الجاري، حيث أظهرت أن 94% من النصوص الجامعية التي أنتجها الذكاء الاصطناعي لم يتم كشفها بواسطة أدوات الكشف المعتمدة، ما قد يمثل خطرا على نزاهة العملية التعليمية والأدبية، ويستوجب تطوير معايير جديدة تجمع بين التقنية والأخلاقيات لمواجهة هذا التحدي.
كما يؤثر الذكاء الاصطناعي على تقييم الإبداع وجودة النصوص، ففي دراسة أجراها باحثان بجامعة “بيتسبرغ” الأمريكية (نوفمبر 2024)، تم تحليل تقييمات القراء لنصوص شعرية كتبها ذكاء اصطناعي مقابل نصوص شعراء معروفين (مثل شكسبير)، ووجدت الدراسة أن القراء يميلون إلى تقييم القصائد التي يعتقدون أنها من تأليف بشر بشكل أعلى من تلك التي يُعتقد أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي، حتى لو كانت جودة النصوص الآلية مماثلة أو أفضل من الناحية الفنية. ويشير هذا الأمر إلى وجود تحيز معرفي لدى الجمهور، ما يجعلنا نتساءل حول كيفية استقبال النصوص المولدة آليا، وتأثير ذلك على مستقبل الأدب.

هـل يُبــدّل الذكــاء الاصطناعي بالإبــداع البشــري؟

تبقى إمكانية أن تعوض الآلة الكاتب البشري هاجسا منطقيا وسؤالا مشروعا، سنحاول الإجابة عنه بالاستئناس، مرة أخرى، بعدد من الدراسات الرائدة في هذا الصدد.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة دعم للإبداع، لا بديلا له..حيث أظهرت دراسة لجامعة هارفارد (2023) أن “الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز العملية الإبداعية لكنه لا يمتلك القدرة على التفكير المستقل أو التعبير عن الذات كما يفعل الإنسان”. وأشارت الدراسة (التي تعلقت بالتفكير النقدي وليس بالإبداع الأدبي) إلى أن الذكاء الاصطناعي يعمل عن طريق معالجة أنماط البيانات السابقة وليس بالتجربة أو الإحساس، ما يجعله محدودا في توليد محتوى يعبر عن مشاعر إنسانية عميقة أو تجارب فريدة.
أما عن العنصر الإنساني والوعي الثقافي، يقول الباحث “مارك أندرسون” (2024) أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الوعي الثقافي (الذي يعتبر من الركائز الأساسية للكتابة الأدبية)، حيث لا يستطيع فهم التعقيدات الثقافية، النكات، والتلميحات التي تنبع من خلفية إنسانية عميقة.
وبخصوص التحديات القانونية والأخلاقية، نشر “مركز بحوث الملكية الفكرية” بجامعة “كامبريدج” (2025)، تحليلا مفاده أن غياب قوانين واضحة لتنظيم ملكية النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي يجعل عملية “الاستبدال” معقدة قانونيا. فالكاتب البشري يُعتبر صاحب الحقوق القانونية والأخلاقية، أما الذكاء الاصطناعي فهو أداة، ما يحول دون اعتباره “مبدعا” قانونيا.
في الختام، يحاول تقرير لجامعة “ستانفورد” (2025) الإجابة عن سؤالنا الأول، بطرح فكرة “التعاون التكاملي” بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، حيث يكون الذكاء الاصطناعي بمثابة مساعد ذكي يساعد الكاتب على توليد أفكار جديدة، وتحرير النصوص، وتطوير أساليب سرد مبتكرة، مع بقاء العنصر البشري صاحب الرؤية والإبداع الأصلي. ويخلص التقرير إلى أن مستقبل الكتابة الإبداعية يكمن في شراكة متوازنة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، حيث يكمل كل طرف الآخر لتحقيق نتائج إبداعية متميزة تجمع بين التقنية والإنسانية.
وتبقى صلاحية الدراسات والرؤى سالفة الذكر مرتبطة بما تخبئه لنا الأيام، والتطور التكنولوجي، خاصة وأن هذا الأخير سريع.. سريع جدا..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19799

العدد 19799

الثلاثاء 17 جوان 2025
العدد 19798

العدد 19798

الإثنين 16 جوان 2025
العدد 19797

العدد 19797

الأحد 15 جوان 2025
العدد 19796

العدد 19796

السبت 14 جوان 2025