المؤسسات الناشئة روافـع قوية لإنتـاج الثقافـة

حتــى يكون الإبــداع رافــدا للتنميـة الاقتصاديـة

أسامة إفراح

بفضل ديناميكيتها في الابتكار، وتحضيرها التقني، وقربها من المبدعين، يمكن للمؤسسات الناشئة أن تشكّل تحوّلًا حقيقيًا في بنية الإنتاج الثقافي، ما يجعل منها روافع قوية لإنتاج الثقافة، رقميا، وميدانيا. لكن هذا التحوّل يجب أن يُرافقه عدد من التدابير، من بينها توفير آليات التمويل، وحماية الإنتاج المحلي، وحوكمة المعلومات الرقمية. كما أن “للناشئات” دورا تكامليا وتعزيزيا، فهي داعم للمؤسسات الثقافية التقليدية، لا بديل عنها.

المؤسسة الناشئة شركة حديثة العهد ومبتكرة، غالبًا ما تعمل في قطاع التكنولوجيا، وتسعى إلى نموذج أعمال قابل للتوسع ومربح. تتميز بإمكانات نمو قوية، ومتطلبات تمويلية كبيرة، وقدرتها على التكيف بسرعة مع تغيرات السوق.

التطــور والخصائـص

تطور مفهوم الشركة الناشئة مع ظهور الإنترنت والتقنيات الرقمية. في البداية، ارتبطت الشركات الناشئة بشكل أساسي بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. أما اليوم، فيمتد المصطلح ليشمل العديد من القطاعات، بما في ذلك الخدمات والتكنولوجيا الحيوية وغيرها، طالما أظهرت الشركة ابتكارًا وإمكانات نمو عالية.
وفيما يتعلق بخصائص هذا النوع من الشركات، تتميز الشركة الناشئة بحداثتها ورغبتها في تحويل فكرة إلى منتج أو خدمة فريدة. أما فيما يخص نموذج الأعمال قيد التطوير، فعلى عكس الشركات الراسخة، لا تمتلك الشركة الناشئة بالضرورة نموذج أعمال محددًا بوضوح منذ البداية، فهي في مرحلة التجريب والتكرار لإيجاد نموذج مربح.
وتمتاز “الستارتاب” أيضا بإمكانات نمو سريع، إذ تهدف الشركات الناشئة إلى نمو هائل في فترة قصيرة نسبيا، وغالبًا ما تستفيد من التقنيات الرقمية وتستهدف الأسواق العالمية. أما من حيث متطلبات التمويل، ونظرًا لمرحلة التطوير الأولية، غالبًا ما تتطلب الشركات الناشئة تمويلًا كبيرًا، لا سيما من المستثمرين، أو رأس المال الاستثماري، أو جمع التبرعات.
ومن المميزات الأخرى، نذكر الوضع المؤقت، فالشركة الناشئة هي مرحلة انتقالية، هدفها هو النمو والتحول إلى شركة متكاملة ذات نموذج أعمال ناضج ومستقر. ومن المميزات أيضا الهيكل المرن والسريع، إذ تفضل الشركات الناشئة الهياكل التنظيمية المرنة وأساليب العمل الرشيقة للتكيف بسرعة مع تغيرات السوق.
باختصار، فإن الشركة الناشئة هي شركة حديثة العهد ومبتكرة تسعى إلى نموذج أعمال قابل للتوسع ومربح، يتمتع بإمكانات نمو قوية ويحتاج إلى تمويل. يرتبط تطورها ارتباطًا وثيقًا بالابتكار التكنولوجي وقدرتها على التكيف مع تغيرات السوق.

الشركـات الناشئـة..وشبيهاتهــا

كثيرا ما يتم الخلط بين مصطلح الشركة الناشئة وعدد من المصطلحات المشابهة، على غرار المؤسسة الصغيرة، وريادة الأعمال، رغم وجود عوامل اختلاف بينها.
وإذا بدأنا بالفرق بين الشركات الناشئة والشركات الصغيرة، يمكن القول إنهما نوعان من الشركات، يختلفان في هدفهما ونموذج أعمالهما ومرحلة تطورهما. وكما سبق القول، فإن الشركات الناشئة هي شركات مؤقتة وتجريبية تركز على الابتكار والنمو السريع، وغالبًا ما تكون في الأسواق الناشئة. أما الشركات الصغيرة، فعادةً ما يكون لديها نموذج أعمال راسخ وتهدف إلى نمو أكثر استقرارًا وتدريجيًا.
ويمكن اختزال أهم الاختلافات بين الاثنين في النقاط التالية:
من حيث الهدف: تسعى الناشئة إلى إيجاد نموذج أعمال قابل للاستمرار والتوسع، وغالبًا ما يتضمن عنصرًا قويًا من الابتكار. أما الصغيرة فهدفها الحفاظ على الأعمال القائمة وتوسيعها، غالبًا بنموذج أعمال مستقر.
من حيث النمو: تسعى الناشئة إلى نمو سريع وواسع النطاق، وغالبًا ما تعتمد على التمويل الخارجي. أما الصغيرة فتسعى إلى نمو تدريجي ومطرد، وغالبًا ما تُموّل من مواردها الخاصة أو من قروض مصرفية.
من حيث نموذج الأعمال: فإن الناشئة هي في مرحلة الاختبار والتجريب، وقد يخضع لتغييرات متعددة. أما الصغيرة فنموذج عملها راسخ ومُحسّن بشكل عام.
من حيث المخاطر: تمتاز الناشئة بمخاطرة أعلى، مع إمكانية النمو السريع واحتمالية الفشل. أما الشركات الصغيرة فهي أقل من مخاطر الشركات الناشئة، مع نموذج عمل أكثر قابلية للتنبؤ.
من حيث السلوك: نجد الناشئة أكثر مرونة، وقابلية للتكيف، وتوجهًا نحو الابتكار. أما الشركات الصغيرة فهي أكثر تحفظًا، يُركّز على الاستقرار والربحية.
خلاصة القول أن الشركة الناشئة هي شركة في مرحلة البحث والتطوير، بينما الشركات الصغيرة هي شركة في مرحلة التشغيل والنمو. ويمكن للشركة الناشئة أن تتطور إلى شركة صغيرة إذا نجحت في تثبيت نموذج عملها وتحقيق نمو مستدام.
أما بخصوص الفرق بين “الشركة الناشئة” و«ريادة الأعمال”، فهو يكمن في نطاقهما: ريادة الأعمال هي عملية أوسع تشمل إنشاء وتطوير أي مشروع تجاري جديد، بينما تُعدّ الشركة الناشئة نوعًا محددًا من الأعمال، يتميز بالابتكار والنمو السريع ونموذج أعمال قابل للتوسع.
ومن نقاط الاختلاف، نلاحظ أن ريادة الأعمال تشير إلى نشاط إنشاء وإدارة مشروع تجاري، سواءً كان صغيرًا أم كبيرًا، مبتكرًا أم تقليديًا، وتتضمن المخاطرة، وتحديد الفرص، وتعبئة الموارد، وإدارة العمليات، ويمكن تطبيقها على جميع أنواع الأعمال، من الشركات المحلية إلى الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة.
أما الشركة الناشئة فهي شركة جديدة، غالبًا ما تعتمد على التكنولوجيا، تسعى إلى حل مشكلة محددة أو تلبية حاجة محددة في سوق ناشئة، تتميز بإمكانية النمو السريع ونموذج أعمال قابل للتوسع، وبمرونة أكبر من الشركات الراسخة، مما يسمح لها بالتكيف بسرعة مع تغيرات السوق. ورغم أن المخاطرة فيها أكبر، لكنها تُقدم أيضًا عوائد محتملة أعلى. وهدفها غالبًا هو إحداث نقلة نوعية في سوق قائم أو إنشاء سوق جديد.
ونخلص إلى أن ريادة الأعمال هي الإطار العام، بينما الشركات الناشئة هي نوع محدد من الأعمال يندرج ضمن هذا الإطار، وغالبًا ما يكون لديها توجه نحو الابتكار والنمو السريع. كما تجدر الإشارة إلى أن جميع الشركات الناشئة هي شركات، ولكن ليست كل الشركات شركات ناشئة.

”الناشئـات” والاقتصــاد الإبداعي

يمكن للمؤسسات أو الشركات الناشئة أن تسهم، كغيرها من مكونات النسيج الاقتصادي، في الاستثمار في المجال الثقافي بمختلف مستوياته.
مثلا، يمكن لهذه المؤسسات المساعدة على توسيع الوصول والتوزيع، إذ تقلل المنصات الرقمية حاجز الوسطاء، ويمكّن ذلك مبدعين مستقلين من الوصول إلى جمهور عالمي، كتلك التي توفّرت عبر منصات التمويل أو العرض المباشر. كما تسهم الناشئات في التمكين الاقتصادي للمبتكرين عبر التمويل الجماعي، والاشتراكات المباشرة، وحلول التسويق الرقمي.
كما يمكنها توفير سلاسل قيمة متعددة الوسائط، مثلا، تقوم بعض المشاريع الناشئة بتحويل المحتوى الثقافي الرقمي إلى أعمال تلفزيونية، ألعاب، أو إنتاجات أخرى من شأنها خلق قيمة ثقافية مستدامة.
ويتم كل ذلك في إطار ما يسمى “الصناعات الإبداعية”، التي يعرفها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بأنها “دورات إنتاج وتوزيـع تعتمد على الإبداع ورأس المال الفكري، تشمل أنشطة قائمة على الثقافة والتراث، تمتلك قيمة اقتصادية وقابلة للتداول”، وتعزز النمو الاقتصادي، التشغيل، الشمول، والتنوّع الثقافي. وتشير ذات الهيئة الأممية، في تقرير لها عام 2024، إلى نمو قوي وفوارق إقليمية واضحة في الاقتصاد الإبداعي، وتؤكد أن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي هما عوامل محورية في التنمية الثقافية.
من جهته، يشير تقرير اليونسكو (2022) أن الوظائف في الاقتصاد الإبداعي الناشئ شكلت أكثر من 3% من الناتج المحلي العالمي الثقافي، مع نمو سنوي مقدر بـ 6%. أما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فذكرت في تقرير صادر في 2018 أن 60% من الشركات الناشئة المبتكرة تتبنّى تقنية النشر الرقمي أو التوزيع عبر المنصات، ما وسّع انتشار الثقافات عبر الحدود.

الناشئــات والثقافـة فــي  الجزائـر

وبالحديث عن الصناعات الثقافية والإبداعية، فقد سعت الجزائر إلى مضاعفة المبادرات والجهود سعيا إلى تشجيع ريادة الأعمال في جميع المجالات، بما فيها الصناعات الثقافية.
ومن الأمثلة على ذلك مشروع حاضنة “مُبادرة Art”، الذي أطلقت وزارة الثقافة والفنون طبعته الثانية جويلية المنقضي. ويهدف هذا البرنامج “إلى دعم ريادة الأعمال الثقافية، وتعزيز الاقتصاد الإبداعي في الجزائر”، في إطار شراكة متعددة تضم: وزارة الثقافة والفنون، وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغرة، المنظمة العالمية للملكية الفكرية، الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، والمدرسة العليا الجزائرية للأعمال.
وفي هذا الصدد، أكد وزير الثقافة والفنون، زهير بللو، أن الطبعة الثانية من البرنامج “تجسد التزام الدولة بدعم الابتكار الثقافي، وتمكين الشباب، وتحويل الإبداع إلى رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية”. وأشار الوزير إلى أن “هذه الدورة عرفت إقبالا واسعا، حيث تم انتقاء 16 مشروعا مبتكرا يجمع بين التراث والتكنولوجيا، ما يعكس قدرات الشباب الجزائري على الإبداع والمبادرة، مؤكدا أن الوزارة تعمل على خلق بيئة محفزة للمبادرات الثقافية، من خلال التكوين، تطوير التمويل، تبسيط الإجراءات، وضمان حقوق المبدعين”، كما دعا إلى “تضافر جهود جميع الفاعلين من مؤسسات عمومية وخاصة، جامعات، مراكز تكوين، ومستثمرين، من أجل إدماج الثقافة في السياسات التنموية الوطنية”.
ويعمل هذا البرنامج على اختيار ودعم ما بين 15 إلى 20 شركة ناشئة، صغيرة ومتوسطة، من جميع أنحاء الوطن، تمارس نشاطها في مجالات الصناعات الإبداعية المختلفة، على غرار الفنون والتصميم والإعلام والترفيه والتكنولوجيا الإبداعية، حيث يتم تشجيع المشاركين الراغبين في تثمين تراثهم الثقافي وتحفيز إبداعهم وتعزيز مكانتهم في السوق على تقديم ترشحهم.
ومن الأمثلة أيضا “قانون المقاول الذاتي” الذي يلعب دورًا كبيرًا في تخفيف العبء على الشركات الناشئة، و«الوكالة الوطنية للمقاول الذاتي” المسؤولة عن إنشاء وإدارة السجل الوطني لمنظمي المشاريع الذاتية، من خلال منصة تسمح بالحصول على “بطاقة المقاول الذاتي”، بشرط أن يكون النشاط ضمن قائمة النشاطات التي تتشكل من سبعة ميادين أحدها “الخدمات الثقافية والاتصال والسمعي البصري”، ويشمل هذا التصنيف وحده 345 نشاطا يملك كل نشاط منها رمز محدد.
لقد خطت الجزائر خطوات مهمة في طريق تشجيع مساهمة الناشئات في الثقافة، ولعلها الآن في مرحلة الانتقال من مبادرات تجريبية إلى منظومة أكثر ثباتا، حتى يصير الاقتصاد الإبداعي رافدا حقيقيا للتنمية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025
العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025
العدد 19855

العدد 19855

الخميس 21 أوث 2025