ارتبط انتشار ألعاب الفيديو بتقدم التكنولوجيا، وأسهمت ثورة المعلومات والاتصالات في انتشار هذه الألعاب وعولمتها. وتتعدد أفكار ألعاب الفيديو ومواضيعها ومكوناتها، والتي قد يكون من بينها المكونات الثقافية والتراثية، ما يمكّن هذه الألعاب من أن تكون أداة فعالة للتعريف بالتراث الثقافي، بتوفير تجارب تفاعلية وغامرة تتيح للاعبين استكشاف ثقافات وحضارات مختلفة، دون أن ننسى فوائدها الاقتصادية، ما يجعلها قطاعا هاما في الصناعات الثقافية.
ظهرت أولى ألعاب الفيديو في خمسينيات القرن الماضي، لكنها لم تكتسب شعبية إلا في سبعينياته مع ظهور أجهزة القاعات وأولى أجهزة الألعاب المنزلية.
في خمسينيات القرن الماضي، أُجريت أولى تجارب ألعاب الفيديو في الجامعات، ومن بينها “Tennis for Two” عام 1958، التي تُعتبر من أوائل ألعاب الفيديو التفاعلية. بعد ذلك، في الستينيات، طُوّرت ألعاب مثل “Spacewar” في الجامعات، واستخدم الجيش الأمريكي محاكاة ألعاب الحرب.
عام 1971، صدرت أول لعبة بجهاز القاعة، “Computer Space”، وفي 1972، صدر “Magnavox Odyssey”، أول جهاز ألعاب منزلي، ولعبة “Pong”، التي حققت نجاحا باهرا.
وشهدت السبعينيات ازدهار أجهزة القاعات وازدادت شعبية ألعاب الفيديو، مع ألعاب مثل “Space Invaders” و«Pac-Man”. وتعتبر الثمانينيات العصر الذهبي لألعاب الفيديو، مع ظهور أجهزة ألعاب مثل أتاري، ووصول ألعاب شهيرة مثل “سوبر ماريو برذرز” و«أسطورة زيلدا”.
خلال التسعينيات، ظهرت تقنية الأبعاد الثلاثية وصعود ألعاب الكمبيوتر، مع ألعاب مثل “دوم” و«هاف لايف”، وعرف عقد الألفينيات نموا سريعا لألعاب الإنترنت، وألعاب الهواتف المحمولة، وصناعة ألعاب الفيديو بشكل عام.ويمكن أن نلاحظ كيف أن تاريخ ألعاب الفيديو في تطور مستمر، من التجارب الأولى في خمسينيات القرن الماضي إلى ازدهار هذه الصناعة اليوم.
ألعــاب الفيديـــو والـتراث
تساعد ألعاب الفيديو على التعريف بالتراث، بتوفير تجارب تفاعلية وغامرة تتيح للاعبين استكشاف ثقافات وحضارات مختلفة، إذ تجسد بعض الألعاب الأحداث التاريخية، وتعيد بناء المواقع الأثرية، وتسمح للاعبين بالتفاعل مع عناصر التراث الثقافي بطرق مبتكرة. على سبيل المثال، قد تعيد اللعبة بناء مدينة تاريخية، أو موقع أثري، أو حتى معركة تاريخية، مما يتيح للاعبين فهم أبعادها وأهميتها بشكل أفضل.
وقد تقدم ألعاب الفيديو معلومات للاعبين حول الثقافات المختلفة، بما في ذلك العادات والتقاليد والمعتقدات والفنون، كالأزياء التقليدية، والموسيقى، والأدب، والفنون الشعبية، مما يثري فهم اللاعبين للتنوع الثقافي.وتستطيع هذه الألعاب إثارة اهتمام اللاعبين بالتراث وتشجعهم على البحث والاستكشاف، إذ قد يكتشف هؤلاء، من خلال اللعب، جوانب جديدة من التراث، مما يثير فضولهم ويدفعهم للتعرف على المزيد.
ويعتبر تجاوز الحواجز الجغرافية أحد مميزات ألعاب الفيديو، حيث يمكن لهذه الأخيرة الوصول إلى جمهور واسع من مختلف أنحاء العالم، وهو ما يتيح لهم فرصة التعرف على ثقافات وحضارات أخرى، ويساعد على تعزيز التفاهم والتبادل الثقافييْن بين مختلف المجتمعات.
ولكن، كما أن لألعاب الفيديو فوائد مثبتة، منها التعريف بالتراث كما قلنا، فإن لها سلبيات محتملة، خصوصا عند الإفراط في الاستخدام أو التعرض لمحتوى غير ملائم، ومن هذه السلبيات الإدمان و«اضطراب الألعاب” الذي أدرجته منظمة الصحة العالمية كحالة صحية عقلية في المراجعة الحادية عشر للتصنيف الدولي للأمراض (وفقا لموقع المنظمة). كما قد تؤثر هذه الألعاب على الانتباه والتركيز، وتسبب فرط الحركة، واضطرابات النوم، وقلة النشاط البدني والسمنة، وضعف المهارات الاجتماعية...مع ضرورة الإشارة إلى أن الضرر قد لا يكون بالضرورة من اللعبة بحد ذاتها، بل من طريقة الاستخدام، كما أن الألعاب التعليمية (وهو موضوعنا) أو التفاعلية المعتدلة قد تكون مفيدة معرفيا واجتماعيا، بشرط الاعتدال في استعمالها.
وعديدة هي الأمثلة على الألعاب التي تعزز التراث وحققت انتشارا واسعا، فهناك الكثير من الألعاب التي تعيد بناء مدن تاريخية أو مواقع أثرية، مثل لعبة “أساسنز كريد” التي تتميز بتفاصيل دقيقة عن المواقع التاريخية التي تدور فيها الأحداث.
كما نجد ألعابا تقدم معلومات حول ثقافات مختلفة، مثل لعبة “جينشين إمباكت” التي تقدم معلومات عن الثقافة الصينية.
النمـوذج الصينــي
يقودنا الحديث عن هذه اللعبة إلى تسليط الضوء على التجربة الصينية في هذا المجال. مثلا، تطرقت وكالة “شينخوا”، شهر جويلية من العام الماضي، إلى تصدر لعبة الفيديو “الأسطورة السوداء: ووكونغ”، المستوحاة من الرواية التقليدية الصينية الشهيرة “رحلة إلى الغرب” من القرن 16، قائمة الرغبات على منصة “ستيم” العالمية لبيع ألعاب الفيديو.
و«تعتبر هذه اللعبة، إلى جانب ألعاب فيديو أخرى، من السفراء الجدد للتراث الثقافي الصيني الغني”، تؤكد الوكالة، وأضافت أن مجلة “نيو لاينز” الأمريكية قد سلطت الضوء على الاهتمام العالمي بها، مشيرة إلى أن الاستثمار الصيني في القوة الناعمة أثمر نتائج إيجابية”.
وتجسد لعبة المغامرة في عالم مفتوح “جينشين إمباكت” (التي أشرنا إليها في المثال السابق) هذا الاتجاه أيضا. فبعد طرحها في سبتمبر عام 2020، سرعان ما تحولت إلى ظاهرة عالمية، حيث نالت إعجاب الجماهير بفضل رسوماتها المذهلة وقصتها المثيرة ودمجها للعناصر الثقافية المختلفة، بما في ذلك العناصر الصينية.
وتواصل الوكالة بأن بيانات من منصة الإحصاء الألمانية “ستاتيستا” أظهرت أن “إمباكت جينشين” هي واحدة من أسرع الألعاب التي يتجاوز إنفاق اللاعبين عليها 100 مليون دولار أمريكي في جميع أنحاء العالم، حيث حققت هذا الرقم في غضون 13 يوما فقط. وذكرت مجلة “الدبلوماسي” الإلكترونية، أن “جينشين إمباكت” كانت أول لعبة فيديو صينية تحقق نجاحا عالميا، ووصفت النجاح الهائل الذي حققته اللعبة بأنه “فوز لقوة الصين الناعمة”.
كما أظهر تقرير صناعي أن 84 في المائة من شركات الألعاب الإلكترونية الصينية تستوحي تصميم شخصيات ألعابها من الشخصيات التقليدية الصينية، وتعتمد 98 في المائة من الشركات على عناصر الثقافة التقليدية الصينية في تصميم البيئات والأشياء داخل ألعابها.
وفي هذا السياق، نقلت “شينخوا” عن “شياو هونغ”، الرئيس التنفيذي الأول لشركة “بيرفيكت وورلد” الصينية الرائدة في صناعة الألعاب الإلكترونية، قوله خلال منتدى حول الابتكار والتنمية في قطاع الثقافة، إن “الدمج بين ألعاب الفيديو والثقافة التقليدية يعزز انتشار الثقافة على مستوى عالمي”. وأضاف أن “هذا التكامل يزيد من معرفة اللاعبين وفهمهم للثقافة الصينية، ويوفر لهم فرصة لتجربة سحرها الفريد”، وأكد أن هذا الأمر “يعزز التبادل والتعلم بين مختلف الثقافات والحضارات”.
اهتمـــــــــــــــــــــام جزائـــــــــــــــــــــري متزايـــــــــــــــــــــد
شهر مارس الماضي، ترأس كل من وزير الثقافة والفنون زهير بللو، ووزير اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغرة نور الدين واضح، اجتماعا حول تطوير الصناعة الثقافية، بحضور إطارات من الوزارتين، وممثلي عدد من المؤسسات الناشئة.
تمحور اللقاء حول أهمية تطوير ألعاب الفيديو للترويج للثقافة الجزائرية والمحافظة على الموروث الثقافي المادي وغير المادي، بالإضافة إلى بحث سبل دعم المؤسسات الناشئة المختصة في هذا المجال.
وتم التطرق إلى الدور المتزايد لألعاب الفيديو كوسيلة فعالة لنقل وترويج الثقافة الجزائرية إلى العالم، حيث يُعتبر هذا المجال من المجالات الحديثة التي توفر فرصًا كبيرة لتعريف الأجيال الجديدة بالتراث الثقافي والفني للجزائر بطريقة مبتكرة.
كما تم التأكيد على ضرورة استخدام هذه الوسيلة لتسليط الضوء على الموروث الثقافي، من خلال تصميم ألعاب تجمع بين الترفيه والتثقيف، وتعكس الهوية الجزائرية في محتواها، دون نسيان المردود المالي الكبير الذي تنتجه مثل هذه الصناعات الثقافية.
وخلال هذا اللقاء، عُرضت عينة من مشاريع مؤسسات ناشئة جزائرية متخصصة في تصميم ألعاب الفيديو، عملت على تقديم حلول إبداعية، بما في ذلك تصميم وتطوير ألعاب فيديو تتضمن عناصر من التراث الوطني، “وهو ما يسهم في تعزيز مكانة الجزائر في السوق العالمي للألعاب”، تؤكد وزارة الثقافة.
كما كُلف الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة بتقديم الدعم القانوني اللازم لهذه المؤسسات الناشئة، ضمانا لحقوقها للملكية الفكرية، وحمايةً للإبداعات الجزائرية من الاستغلال غير المشروع، وتوفيرا لبيئة قانونية تحفز على الابتكار في هذا المجال.
وأكد وزير الثقافة والفنون هذا التوجه خلال زيارته الطبعة الثالثة من معرض “غايمز أند كوميك كون دزاير 2025”، أفريل الماضي بقصر الثقافة، وهو المعرض المخصص للألعاب الإلكترونية والكوميكس والأنمي. ونقلت وسائل الإعلام إعجاب الوزير “بالمستوى الرفيع الذي وصل إليه المبدعون المحليون في مجال الألعاب الإلكترونية، مؤكدا أن هذه الصناعة الحديثة تعتبر أداة قوية لحفظ ونقل الهوية الثقافية الجزائرية للأجيال القادمة”، وأن “الألعاب الإلكترونية لا تقتصر على كونها وسيلة للتسلية والترفيه، بل أصبحت اليوم أداة فعالة في نشر الثقافة الوطنية، وتعريف الشباب بجمال وتنوع موروثنا الثقافي المادي وغير المادي”.
ويتماهى ذلك مع إقبال الشباب الجزائري على ألعاب الفيديو، بدليل الحضور القوي في مثل هذه المعارض، وكذا المراتب المتقدمة للجزائر، إفريقيًا، في استهلاك هذه المنتجات الرقمية، في انتظار تحول هذا الشباب من مستهلك بحت، إلى منتج ومبتكر.