في عصر يتسم بالسرعة والتطور التكنولوجي المتسارع، بات المحتوى الرقمي أحد أبرز الوسائط المعرفية التي تسهم في تشكيل الرأي العام، وصياغة التحولات الثقافية والاجتماعية على حد سواء. وفي هذا السياق، يرى الدكتور بشير خليفي أن المحتوى الرقمي لم يعد يقتصر على النصوص والصور فقط، بل يشمل مختلف المنجزات الإلكترونية، من المقاطع الصوتية والمرئية إلى المواقع الإلكترونية ومنشورات منصات التواصل الاجتماعي.
ويشير الدكتور خليفي في تصريح خصّ به جريدة “الشعب” إلى أن المحتوى الرقمي، في جوهره، هو “مجموعة الوسائط والمتون المعرفية التي تُشكل وتُخزن وتُوزع إلكترونيًا”، مضيفًا أنه يخدم غايات متعددة، من بينها التعلم والمشاركة والترفيه، بل وحتى تحقيق الربح السريع.
من أبرز السمات التي تميز المحتوى الرقمي – يقول خليفي - خاصية التفاعل الفوري التي تحوّله إلى أداة فعالة في مجالات المعرفة والتسويق والتواصل، بفضل سهولة النشر وسرعة الوصول إليه. ويوضح أن “التحول من الورقي إلى الرقمي ليس مجرد تطور تقني، بل خطوة استراتيجية تضمن فعالية أكبر للمحتوى وسهولة مشاركته وانتشاره”.
ويضيف: “يكفي أن ينشر أحدهم قصة قصيرة رقمياً، حتى تنهال عليه الردود والتفاعلات، ما يسهم في تشكيل جماعات اهتمام فاعلة تُطوّر الكتابة القصصية وتُثريها”، ويستشهد بذلك على الدور المحوري الذي يلعبه المحتوى الرقمي في تنمية المهارات الفردية، وتحفيز التفاعل الاجتماعي والثقافي.
الوجـــه المظلـــم للمحتـــوى الرقمـــــي
غير أن الدكتور خليفي لا يغفل الجانب السلبي لهذا المحتوى، إذ يرى أن “انعكاسات المحتوى الرقمي ليست إيجابية على الدوام، خاصة في ظل تنامي المحتويات السطحية والتافهة، وانتشار الخطابات اللاأخلاقية والمصطلحات الخادشة التي تُستخدم كوسائل للإغراء وتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة”، ليُحذر من مخاطر انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، مشددًا على أن “سهولة النشر واللجوء إلى الأسماء المستعارة والهويات الوهمية يفتح الباب واسعًا أمام فوضى رقمية تُهدد الصدقية والمعايير الأخلاقية”، كما يُشير إلى أن المحتوى الرقمي يعاني من هشاشة كبيرة أمام الجرائم الإلكترونية، موضحًا أن “الاختراقات وانتهاكات البيانات تثير كثيرا من المخاوف بشأن الخصوصية والأمن الرقمي”.
الحاجة إلى تشريعات جديدة..واضحة
من بين التحديات الجوهرية التي تواجه المحتوى الرقمي، يلفت الدكتور خليفي إلى مسألة حماية حقوق الطبع والنشر والملكية الفكرية، قائلاً: “سهولة مشاركة المحتوى الرقمي تجعل من ضمان هذه الحقوق مسألة معقدة للغاية، في ظل غياب قوانين صارمة تُنظّم هذا المجال.”
ويضيف: “لا بد من ضبط المحتوى الرقمي قانونياً، ووضع آليات تقنية وتشريعية تُعزز من حماية الملكية الفكرية، وتحمي حقوق المنتجين والمبدعين، خاصة في بيئة يسهل فيها نسخ المضامين وتداولها دون رقابة أو إذن مسبق.”
الفجوة الرقميـة والتفــاوت في فـرص الوصــول
جانب آخر لا يقل أهمية، يتعلق بالفجوة الرقمية بين الأفراد والمجتمعات، حيث يوضح الدكتور خليفي أن “عدم تكافؤ فرص الوصول إلى الوسائل الرقمية يُعمّق من مظاهر الإقصاء الرقمي، ويجعل من التكنولوجيا وسيلة لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية بدلاً من تجاوزها”، ويُشدّد على ضرورة “تحقيق مبدأ التكافؤ والإنصاف في امتلاك التكنولوجيا الرقمية، وتوفير البنية التحتية اللازمة لتمكين الجميع من استخدامها بفعالية”.
وعن مسألة جدوى المحتوى الرقمي، يؤكد الدكتور خليفي أن “الأمر يتوقف بالدرجة الأولى على صانع المحتوى ومستخدمه”، حيث يُمكن للمحتوى الرقمي أن يُقدم معارف قيّمة تُسهم في تطوير المهارات الفردية والتعليم الذاتي، كما هي الحال في المنصات التعليمية، ومواقع تعلم اللغات، وتطوير الذات، لكنه ـ في المقابل ـ “قد يتحول إلى أداة لإشاعة التفاهة وإضاعة الوقت، عندما تُوجَّه طاقاته فقط نحو الترفيه السطحي وتشتيت الانتباه”، ما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للفرد، ويُقلّص من جودة التلقي الثقافي لدى المستخدمين.
إعلام رقمي مسؤول
ودعا الدكتور بشير خليفي إلى “إعادة النظر في منظومة إنتاج وتوزيع المحتوى الرقمي، من خلال إرساء قواعد أخلاقية وتشريعية صارمة، وتكوين جيل جديد من صُنّاع المحتوى الذين يُدركون أثر الكلمة وأهمية الرسالة الرقمية”، وأكد أن “رهان العصر لم يعد تقنيًا فقط، بل هو رهـان معرفي وقيمي بامتياز، يتطلب تضافر جهود كل الفاعلين، من مؤسسات ومستخدمين، لإرساء بيئة رقمية مسؤولة، تُحقق التوازن بين الإبداع والرقابة، وبين الحرية والمسؤولية.”