يعتبر المحتوى الرقمي من أبرز مظاهر الثورة التكنولوجية في عصرنا الحديث، فهو لا يمثل فقط مصدرا للمعلومات، بل يشكل أيضا وسيلة للتفاعل والتواصل بين الأفراد والمجتمعات. وقد أدى تطور المحتوى الرقمي إلى تغييرات جذرية في كيفية الحصول على المعرفة وتبادل الأفكار، ما يفرض علينا البحث في جذوره، وتطوره، وتأثيراته على الفرد والمجتمع. ورغم آثاره السلبية العديدة، المثبتة والمحتملة، إلا أنه يبقى أداة هامة لنشر الوعي والمعارف والتواصل الإيجابي.
المحتوى الرقمي هو مجموعة البيانات والمعلومات التي يتم إنتاجها وتخزينها وتوزيعها باستخدام الوسائط الرقمية، ويتمثل هذا المحتوى في أشكال متعددة تشمل النصوص، والصور، والفيديوهات، والصوتيات، والرسوم المتحركة.
من الناحية التقنية، يُعتبر المحتوى الرقمي عنصرا أساسيا في عملية نقل المعلومات عبر الإنترنت، ويعتمد على تقنيات مثل التخزين السحابي، قواعد البيانات، والبروتوكولات الشبكية. معرفيا، يشمل المحتوى الرقمي كل ما يمكن الوصول إليه عبر الأجهزة الإلكترونية، مما يسمح بتجربة تفاعلية وغنية للمستخدمين.
النشـأة والتطـور
بدأ التحوّل الرقمي العميق بالمحتوى منذ التسعينيات، حينما ظهرت شبكة الإنترنت العامة والويب التجاري، مثل إطلاق شركة “أوريلي” أول موقع تجاري عام 1993. ومع أول مدونة حقيقية عبر الإنترنت عام 1994، بدأت تنتشر فكرة أن أي فرد يمكنه نشر محتوى رقمي بنفسه. وفي 1996، ظهر لأول مرة مصطلح “التسويق بالمحتوى” ضمن نقاش في الجمعية الأمريكية لمحرري الصحف، وتلا ذلك تطور سريع في هذا النوع من التسويق عبر الإنترنت.
من جهة أخرى، مع دخول عصر الويب 2.0 أوائل الألفية الجديدة، وظهور مدونات تفاعلية ومنصات وسائط اجتماعية، بات المحتوى يُنشأ ويُشارَك ويتفاعل معه الجمهور بقدرة غير مسبوقة، مدعوما بفكرة “المحتوى الذي يساهم المستخدم بإنشائه”. وجاءت وسائط مثل “مايسبايس” ثم “فيسبوك” و«يوتيوب” و«تويتر” لتحوّل طبيعة النشر من موقف استهلاكي إلى إنتاج وتفاعل جماهيري.
ومع انتشار الهواتف الذكية والتطبيقات، تطور المحتوى الرقمي من نصوص بسيطة وصور ثابتة إلى فيديوهات قصيرة وتفاعلية، ثم تحول ليصبح مجالا تجاريا مع بروز ظاهرة “المؤثرين” عبر “إنستغرام” و«تيك توك” و«فيسبوك”، وانتقلت العلاقة بين الجمهور وصانعي المحتوى من المشاركة إلى علاقة تجارية تسويقية.
ويجدر بنا التفريق بين مصطلحيْ “المؤثر” و«صانع المحتوى”: فإذا كان الأول يصف أشخاصا لديهم قدرة على التأثير في قرارات جمهورهم عبر وسائل رقمية، خاصة في سياق التسويق عبر المدونات والمنتديات، فإن الثاني يشير إلى منشئي المحتوى الذين ينتجون أفكارا وفيديوهاتٍ متعددة الشكل وليس فقط مشاهير تقليديين، وهم يفضلون هذه الصفة لما لها من ثقل مهني وإبداعي يتجاوز المعنى التجاري والتسويقي لمصطلح “المؤثر”.
وقد تضافرت عدة عوامل لتعزيز تطور المحتوى الرقمي، كان أبرزها انتشار وتطور تكنولوجيا الاتصال، والأجهزة المحمولة التي سمحت بعرض وتبادل المحتوى في أي زمان ومكان، ومنصات التواصل الاجتماعي التي وفّرت بنية تحتية للنشر والتفاعل، وخوارزميات الاكتشاف والمكافأة.
النظريـــات والمقاربــات
تطرقت العديد من النظريات إلى المحتوى الرقمي، أو ما يحيط به، ولعلنا نبدأ بنظرية الإعلام الجديد، وهي تشير إلى مجموعة النظريات والمفاهيم التي تحاول فهم وتحليل تأثير وسائل الإعلام الرقمية الحديثة على الأفراد والمجتمعات. وتتناول هذه النظرية التغيرات التي أحدثها الإعلام الجديد في طريقة تواصلنا، ونشر المعلومات، وتشكيل الرأي العام، وتأثيرها على الهوية والمجتمع، وتشمل عدة جوانب، منها: التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع (تأثير التكنولوجيا الرقمية على التغيرات الاجتماعية والثقافية، وكيف تؤثر على تفكيرنا وسلوكياتنا)، والإعلام الجديد والهوية (كيفية تأثير وسائل الإعلام الجديد على تشكيل هويتنا الفردية والجماعية، وكيفية تأثيرها على تمثلاتنا لأنفسنا والآخرين)، والإعلام الجديد والمجال العام (إسهام الإعلام الجديد في بناء فضاء عام افتراضي، وتأثيره على المشاركة السياسية، وتشكيل الرأي العام).
ومن المقاربات النظرية، نظرية “ثقافة التقاطع” التي تبرز تدفق المحتوى عبر وسائط متنوعة (نص، فيديو، صوت، شبكات تواصل)، وتفاعل الجمهور كعنصر فاعل في إعادة إنتاج وتوزيع المحتوى. وتفسر هذه النظرية التحول من الجمهور السلبي إلى الثقافة التشاركية التي يرى فيها المستخدم نفسه جزءًا من صناعة المعنى وليس مجرد مستهلك.
كما نذكر نظرية “شبكات الفاعلين”، وهي تنظر إلى التكنولوجيا والأجهزة والمنصات (خوارزميات، تطبيقات) كفاعلين لهم دور في تشكيل المحتوى الرقمي والمسارات الاجتماعية.
أما النظريات التأثيرية فتشمل إطارا لفهم تأثير المحتوى على المتلقي، مثل تلك التي تقيس التأثيرات السلوكية والعاطفية والإدراكية للمحتوى الرقمي. كما تعد نظرية “إدارة المزاج” أداة مهمة لفهم كيف يختار الأفراد محتوى رقميا بناءً على تحسين حالتهم النفسية عبر وسائل متعددة.
وعلى الرغم من تنوّع النظريات، إلا أنها تُجمِع على أن المحتوى الرقمي ليس فقط وسيلة نقل معلومات، بل شبكة معقدة من عوامل بشرية وتقنية أثرت وتؤثر في كيفية إنتاجه وتلقّيه.
تأثــيرات المحتــوى الرقمي
تتعدد تأثيرات المحتوى الرقمي على المستخدمين، وقد سلطت الدراسات الحديثة الضوء على الكثير من الآثار السلبية التي قد يكون هذا المحتوى سببا مباشرا فيها.
من بين التأثيرات، تلك الإدراكية والمعرفية، حيث أظهرت دراسات أن المتعددين بكثرة في استخدام وسائل الإعلام الرقمية أبطأ في الاستجابة لتغييرات بسيطة في الأنماط، وأضعف في الذاكرة العاملة، كما تتأثر ذاكرتهم طويلة المدى بتحديد عناصر خاطئة أثناء استدعائها. بمعنى أن تعدد المهام الإعلامية يؤثر سلبا على الأداء الإدراكي والانتباه. من جهة أخرى، تؤدي مشاهدة فيديوهات قصيرة وسريعة (مثل تلك التي على تيك توك) إلى تدهور الأداء في مهام تتطلب تذكر نية مسبقة، إذ أن التنقل السريع بين مقاطع قصيرة يُضعف قدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالنوايا للمستقبل.
وإذا كان طلاب الجامعات قد صاروا يفضلون المحتوى الرقمي القصير والمباشر، إلا أنهم، في المقابل، يعانون من انخفاض في التركيز وصعوبة في قراءة النصوص المعمقة، وهو ما يعكس تحولا (سلبيا) في نمط التفاعل مع المعرفة.
ومن الآثار السلبية الانشغال الرقمي والإدمان، فالإدمان الرقمي، لا سيما على وسائل التواصل أو الألعاب الرقمية، يرتبط بتراجع الوظائف التنفيذية للدماغ، مثل التركيز، اتخاذ القرار، والتحكم العاطفي. كما يتأثر حجم المادة الرمادية عند الأشخاص المدمنين على الإنترنت، مما يشير إلى تأثير طويل الأمد في البُنى الدماغية الحيوية.
وفي الشق النفسي والاجتماعي، يرتبط الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي بارتفاع مستويات العزلة الاجتماعية والإدمان على الهواتف الذكية، وهذا بدوره يقلل من الصحة النفسية. ويؤدي الاستخدام المفرط لوسائل التواصل إلى زيادة المقارنات الاجتماعية السلبية، وضعف الصورة الذاتية، وقيم ينتج عنها اضطراب نفسي واكتئاب، خاصة بين المراهقين. وتسهم المقارنات بالمؤثرين والمجتمعات الرقمية المثالية في انخفاض احترام الذات والاشمئزاز من الصورة الجسدية.
ونشير أيضا إلى مسألة التنافر الاجتماعي، فظاهرة “التجاهل بالهاتف” (استخدام الهاتف أثناء التفاعل الاجتماعي المباشر) أصبحت شائعة لدى مختلف الفئات العمرية، ويضعف ذلك جودة العلاقات الاجتماعية ويخلق مشاعر العزلة والانفصال العاطفي.
ومن الجليّ تأثر هذا الجيل بشكل أكبر بالمحتوى الرقمي مقارنة بالأجيال السابقة، خاصة من حيث التوجه نحو المعرفة والمعلومات المطروحة عبر المنصات الاجتماعية (مع تأثيرات متفاوتة)، إلا أن ذلك يصاحبه “المعالجة الاجتماعية للمعلومات”، أي أن تقييم أبناء الجيل الحالي للمعلومة مرتبط بالسياق الاجتماعي أكثر منه بالدقة الموضوعية.
ومن وجهة نظر اجتماعية وسياسية، فإن الانتشار السريع للمحتوى عبر الخوارزميات يسهم في إنتاج “فقاعات الصدى” والاستقطاب السياسي، وتزايد العزلة الإيديولوجية في عصر المشاركة الرقمية. وحتى وإن أسهمت المنصات الرقمية في تعزيز أدوات التنظيم المدني والحراك السياسي، والأمثلة على ذلك كثيرة، لكنها تبقى تواجه تحديات التشويه المعلوماتي والتضليل السياسي.
ورغم أن الضوء مسلط أكثر على التأثيرات السلبية، فإن المحتوى الرقمي لا يخلو من الفوائد المحتملة، مثل تحسين التطبيقات التعليمية التفاعلية للتفكير النقدي، والاحتفاظ بالمعلومات، والمهارات المعرفية لدى الأطفال، بشرط الاستخدام المعتدل والإشراف التربوي المناسب. ويمكن للتكنولوجيا الرقمية أن تعزّز سرعة معالجة المعلومات وقدرات التعددية في المهام، إضافة إلى إمكانات تحسين الإدراك، بشرط إدراجها ضمن استراتيجيات تربوية وتقنية صحيحة.
في الأخير، وعلى الرغم من بعض تأثيراته السلبية مثل التشتيت والتضليل السياسي، يمتلك المحتوى الرقمي إمكانات هائلة للتحول الاجتماعي الإيجابي إذا ما تم تحسينه بتربية رقمية واعية، ومواجهة المعلومات المضللة، وإنتاج مادة تسهم في تعزيز المعرفة والتواصل الإيجابي بين البشر.