تعرية وفضح ممارسات الاحتلال وتجريمها في المحافل الدولية
ما أنجزته الجزائر تجاه القضية الفلسطينية يشكّل عملاً تاريخياً بمعايير السياسة والقانون
وجّه خطاب وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في الأمم المتحدة حول فلسطين، النقاش نحو آليات التنفيذ لا عناوين التعاطف فقط، حيث ركزت الجزائر على وقف شامل لحرب الإبادة وحماية منهجية للمدنيين وتمكينٍ فعلي لعمل الأونروا والدفع بملف العضوية الكاملة لدولة فلسطين على حدود 1967 كاختبار لصدقية المنظومة متعددة الأطراف.
تربط الجزائر الحدث الراهن بمسارٍ تراكمي بدأ بالخطاب التاريخي لرئيس الجمهورية في الأمم المتحدة في سبتمبر 2023 واستمر في مجلس الأمن، عبر صياغة مشاريع قرارات وحشد كتل تصويت وتنسيق عربي وإفريقي، فتقدّم لحظة نيويورك كحلقة متقدمة في سلسلة عمل لا كهبة ظرفية. تقوم المقاربة الجزائرية اليوم على ثلاث أولويات مترابطة، تُوقف الحرب ضمن ترتيبات مراقبة أممية واضحة وفتح الممرات الإنسانية بصورة دائمة غير قابلة للمقايضة، وإعادة الاعتبار لقواعد القانون الدولي الإنساني. وتثبيت مسار الدولة بعضوية كاملة بما يحسم الجدل حول صفة فلسطين في الأمم المتحدة ويمنح أدوات تفاوض متكافئة ويضع سقفًا قانونيًا لأي محاولات فرض أمر واقع على الأرض. وتُفعّل المساءلة بوصفها ضمانة التطبيق فتدعم اختصاص القضاء الدولي وتدعو إلى إجراءات رادعة موجهة ضد منظومة الاستيطان والضم بدل الاكتفاء ببيانات الإدانة.
وتستند الجزائر في مبادرتها إلى ذاكرة تحررية دون أن تحوّلها إلى قصيدة تمجيد، حيث توظّف الرصيد التاريخي كحجة عملية تُقنع الشركاء بأن ربط الأمن الإقليمي بحق تقرير المصير يقلّل كلفة العنف الدوري ويمنع توسّع عدم الاستقرار. كما تُفعّل قنواتها في الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي وحركة عدم الانحياز وتترجم التنسيق السياسي إلى أوراق تصويت ومبادرات إجرائية وتعمل على نقل ثقل النقاش من سؤال الاعتراف إلى سؤال التفعيل عبر خرائط حدود واضحة وترتيبات للقدس وضمانات لحقوق اللاجئين وآليات أمنية تحت إشراف أممي.
ويقرّ كثير من المتابعين اليوم بأن ما أنجزته الجزائر خلال العامين الماضيين تجاه القضية الفلسطينية يشكّل عملاً تاريخياً بمعايير السياسة والقانون، ويظهر جرأة ورؤية استباقية عالية حين سمّت جرائم الإبادة والإرهاب الصهيوني وطالبت بمحاسبة المسؤولين بوصفهم مرتكبي جرائم حرب، ويبرز في هذا السياق موقف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون والذي نقل النقاش من منطقة التبرير إلى ميدان المساءلة.
وتفصل الجزائر بوضوح بين المقاومة كفعل تحرري مشروع تكفله المواثيق الدولية وبين الأعمال الإرهابية التي تعرف معاييرها وخبرتها الوطنية في مكافحتها، وترفض الخلط الذي تبنّته دول كانت تتردد في انتقاد الكيان أو تميل للتعاطف معه. وتضع الجزائر بهذا النهج أسساً خطابية وقانونية مكّنت من تعرية ممارسات الاحتلال وتجريمها في المحافل الدولية، وتؤدي دوراً محورياً في تحويل الحقائق الميدانية إلى مواقف ملزمة ومعايير قياس تُحاسِب الفاعلين بدل الاكتفاء بالبيانات.
في السياق، أوضح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور بوحاتم مصطفى، في تصريح لـ»الشعب»، أن مداخلة عطاف عكست ثوابت الدبلوماسية الجزائرية القائمة على مبادئ لا تتبدل، فسمّت الوقائع بأسمائها واتهمت الكيان مباشرة بتبنّي أوهام توسعية على حساب دول المنطقة والشعب الفلسطيني.
كما شدّد على دلالة استخدام عبارة «فرض قيام دولة فلسطين»، مبينًا أن المقصود ليس القوة العسكرية، بل أدوات الإلزام المشروعة من حصارٍ وعقوباتٍ وملاحقاتٍ جنائية بحق المسؤولين، إضافة إلى ضغطٍ شعبي دولي يتجلى في اتساع المظاهرات الأوروبية دعمًا لفلسطين.
ولفت بوحاتم اليوم إلى أن ما يقلق الكيان ليس مواقف حكوماتٍ غربية كثيرٌ منها متواطئ، بل ضمير الشعوب الذي يدفع تلك الحكومات إلى مسايرة الرأي العام وإدانة الانتهاكات. مؤكدا في السياق ذاته أن الجزائر بذلت جهدًا منهجيًا لإيصال صوت فلسطين داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وقدّمت مشاريع قرارات استحوذت على متابعة إعلامية واسعة وكشفت تناقضات الخطاب والممارسة لدى العديد من الدول في التعاطي مع القضية.
وترسو الجزائر في نيويورك على خطة عمل لا على بيان نوايا، فتربط وقف الحرب بآلية مراقبة أممية وحماية إنسانية مستدامة، وتحوّل الاعتراف بفلسطين إلى كتلة تصويت منظمة تدفع نحو العضوية الكاملة وتمنح مسار الدولة أدوات تفاوض متكافئة، وتثبت المساءلة كشرط تنفيذي عبر تفعيل مسارات القضاء الدولي وإجراءات ردع موجهة للاستيطان والضم.
وبهذا المنهج تُقَلِّص الجزائر كلفة التعطيل السياسي، وتُلزم العواصم بمواءمة خطابها مع تصويتها وتمويلها للأونروا، وتغلق ثغرات إدارة الأزمة عبر جداول زمنية وتقارير متابعة تُسمّي المعرقلين وتعيد تعريف وظيفة الأمم المتحدة كساحة قرار تُنتج أثراً قابلاً للقياس لا منبراً لإعادة تدوير المواقف.