معالم التوجّهات الجديدة للمنظومة الاقتصادية

مرافقة المؤسسات، تطهير مناخ الأعمال وإنهاء طبع النقود

سعيد بن عياد

 

تقف المنظومة الاقتصادية عند منعطف جديد يعوّل في اجتيازه بأقل ضرر على إعادة ترتيب الموارد الوطنية وحشدها في اتجاه مواجهة التحديات من خلال الرفع من وتيرة النمو بإقحام عناصر اقتصادية بامتياز تساعد على إنتاج القيمة المضافة، في سوق يرتقب أن تستعيد حيويتها وديناميكيتها الاستثمارية، وفقا لمعايير المنافسة وحرية المبادرة والشراكة الشفافة.

لن يكون هذا الصيف موعدا للركون للراحة، بالنظر لتقلص هامش المناورة وضيق الوقت أمام الاحتياجات وكلفة الأشهر الأخيرة نتيجة تداعيات الازمة، التي لا يزال بالإمكان تخطيها، إذا أدرك الشركاء في المجالين السياسي والاقتصادي مدى ضرورة الإسراع في صياغة توافق، ضمن الإطار الدستوري، للتوجّه بكل قوة إلى الشروع في بناء عهد جديد يستوعب التطلعات التي يعبر عنها الشعب، والتي تمّ إرساء أولى أسسها المحورية من خلال المبادرة على مستوى أعلى الهرم بكسر شوكة الفساد وإبعاد الفاسدين من المشهد.
برزت معالم هذه التوجهات الكبرى في الآونة الأخيرة بتولي الدولة على مستوى مختلف مراكز ممارسة السلطات العمومية معالجة ملفات اقتصادية لا تحتمل التأجيل حرصا على حماية النسيج المؤسساتي الإنتاجي الوطني بالحفاظ على ديناميكيته حتى ولو سجل تراجع وتيرة الأداء في بعض القطاعات.
ومن أبرز تلك التوجهات أحداث الحكومة لجهاز يتكفّل بمتابعة النشاطات الاقتصادية والحفاظ على أدوات الإنتاج، وتأكيد الوفاء بالالتزامات والتعهدات تجاه كافة المتعاملين، بحيث يتمّ بموجب هذا الخيار، بعد اجراء مسح للساحة الاقتصادية وتطهير الملفات المتعلقة بالمشاريع الجارية وضبط وضعية المؤسسات المعنية، وخاصة تلك التي تورط اصحابها ومسيروها في جرائم الفساد، مرافقة مسار حماية وسائل الانتاج وأدوات الانجاز لتستمر في العمل بما يحمي عالم الشغل ويطمئن اليد العاملة.
وهنا ينبغي الإسراع في تفعيل الإجراءات اللازمة وفقا للأدوات القانونية والقضائية من أجل إعادة الإمساك بخيط النمو، وذلك بإسناد إدارة الوحدات المعنية لكفاءات بشرية جديرة بالمهمة، تحت مراقبة البنوك التي سبق أن موّلت تلك المؤسسات، من أجل استرجاع قيمة القروض، وحينها حتى إذا تبخرت الفائدة لا يجب أن يضيع رأس المال.
والتوجّه الآخر الذي له دلالات التحوّل السليم، حتى وإن كان صعبا في البداية، يتمثل في الإعلان رسميا عن انهاء العمل بخيار الاصدار النقدي (طباعة العملة)، وبالتالي وقف التمويل غير التقليدي الذي لاحت تداعياته السلبية مبكرا، بدءا من عودة هاجس التضخم الى تراجع فادح لقيمة العملة الوطنية (الدينار الجزائري) مرورا بحديث عن سوء استعمال الكلتة النقدية المطبوعة. وللتذكير بلغ حجم الإصدار النقدي الذي أعلن عنه لمواجهة تآكل احتياطي الصرف من العملة الصعبة أكثر من 650 ألف مليار دينار جنّدتها الخزينة العامة لدى بنك الجزائر منذ منتصف نوفمبر 2017، الى غاية نهاية جانفي 2019. ولا يزال حوالي 945 مليار في حساب الخزينة لدى البنك المركزي، الذي أشار في ورقة له سابقا، أن نصف الأموال المطبوعة ضخت في دواليب الاقتصاد، غير أن النتائج المسطرة لا تبدو تحقّقت، وليس من أفضل سبيل لبلوغها سوى الرجوع الى الميكانيزمات الاقتصادية ومواجهة الوضع بالعمل المنتج والخلاق للثروة.
ويقود هذا الإصرار على مواجهة الوضع برؤية شاملة ومتدرجة ومتبصرة، رغم ضيق مساحة المناورة، إلى تكريس توجّه له علاقة بالأمن الوطني الشامل من بوابة الاعتماد على قيمة العمل وتطهير مناخ الاستثمار والأعمال، من أجل تفادي أي انزلاق إلى الاستدانة الخارجية، التي تلوح تهديداتها في آلاف إذا لم تنصهر كل القوى الوطنية وفي كافة القطاعات ضمن إرادة واحدة صلبة تحقق الوثبة المطلوبة لتأمين مسار سليم للتحولات العميقة وتكريس النهج الديمقراطي الذي يعزّز من مكاسب البلاد ويحمي مصالح الشعب.
إن التحدي الراهن يقتضي إعادة تفعيل مسار النمو ضمن رؤية استراتيجية ترتكز على القدرات الوطنية المادية والمالية، وأساسا منها البشرية بوضع الكفاءات على مستوى مفاصل المنظومة الاقتصادية في ظلّ تأكيد الدولة على مكافحة الفساد، بالموازاة مع مرافقة مسار الانتقال السياسي الصحيح، بعد تخليصها من تركة العصابة، بما يضمن حينها انتخاب رئيس جديد للجمهورية في كنف الهدوء، يمكنه تولي مقاليد تسيير البلاد.
ولعلّ العنصر الجدير بالتمعّن في مغزاه الوطني الاستراتيجي، الذي يتجاوز الرؤية الضيقة، التزام المؤسسة العسكرية، من مركزها الدستوري، بمرافقة تحقيق مطالب الديناميكية الاحتجاجية لـ»الحراك» ضمن رؤية شاملة ومنسجمة تولي للجانب الاقتصادي مكانته في ورقة الطريق الدستورية، خاصة لما يؤكد رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي على أن إمكانيات التخلص من الأزمة لا تزال قائمة وموجودة، ومن ثمة فإن الأفق واعد، رغم محاولات تثبيط العزائم وقطع حبل الأمل في المستقبل من بعض القوى السلبية، شريطة أن يلتف  جميع الشركاء حول حوار شامل، يتجاوز مداه التعاطي برد الفعل مع اللّحظة، وإنما يجب أن يتم إدراج مصالح الأجيال القادمة في كل خيار أو مقاربة، وهي المصالح المشروعة التي سيضمنها الحرص على الوحدة الوطنية بتنوعها الثري ونبذ الفساد وتشجيع المنافسة النزيهة، التي وحدها تقود إلى إعادة الثقة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024