ربط المنافذ البحرية بشبكة الطرق السريعة.. امتـداد للحركـة التجاريـة نحو الداخــل
حجر الزاوية في إستراتيجية تطوير النقل البحري واقتحام سوق التجارة العالمية
هبــاش: تطويـر النقـل البحرـي عامــل أساسي لتحقيـق التنميــة الاقتصاديـة
تيغرسـي: تقليص آجـال انتظــار السفن مرهـون بالكفــاءة اللوجيستيــة
هني: “مينـاء ذكي” ونمــوذج بحـري لوجيستي للاستثمار
تسعى الجزائر من خلال مشروع توسعة ميناء جن جن، إلى تحويله إلى نقطة جذب رئيسية للتجارة الدولية من خلال نظام لوجستي شامل يربطه بشبكات النقل العالمية، سواء كان ذلك عبر البحر أو السكك الحديدية أو الطرق، على أن يعزّز هذا الربط المتكامل قدرة الجزائر على تصدير واستيراد البضائع بسهولة أكبر، بالإضافة إلى جذب المزيد من المستثمرين والشركات العالمية التي تبحث عن مواقع استراتيجية لخدمات “الترانزيت”.
يسمح مشروع التوسعة بتحسين الكفاءة التشغيلية للميناء، من خلال تطبيق أنظمة متطورة لإدارة العمليات، تشمل مراقبة حركة السفن، تنظيم تحميل وتفريغ البضائع، وإدارة المستودعات والمناطق الجمركية، ومع وجود هذه الأنظمة، سيصبح الميناء قادرا على تقليل زمن الانتظار وزيادة عدد السفن التي يمكن أن يخدمها يوميا، ممّا يجعله أحد أكثر الموانئ كفاءة في المنطقة، خاصة وأنّ الخزينة العمومية تتحمل تكاليف باهظة الثمن بالعملة الصعبة، نتيجة ضعف الكفاءة في أنظمة تحميل وتفريغ البضائع، ممّا يرفع من زمن بقاء انتظار السفن عرض البحر.
في السياق، اعتبر الخبير في الاقتصاديات الحكومية البروفيسور فارس هباش لـ “الشعب”، الإعلان عن مشروع توسعة ميناء جن جن بولاية جيجل، الذي يعتبر من المشاريع الكبرى التي تدشّنها الجزائر في إطار تعزيز البنية التحتية لقطاع النقل البحري، خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز مكانتها كمركز تجاري إقليمي ودولي، موضّحا أنّ الميناء المطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعد واحدا من الموانئ الهامة في الجزائر، وتعتبر توسعته جزءا من رؤية الحكومة لتحويله إلى قطب اقتصادي يساهم بشكل كبير في تحسين وتسهيل التبادل التجاري، خاصة في المنطقة المتوسطية.
بالنسبة للشق المالي والتقني المتعلق بالمشروع الضخم، أوضح هباش أنّ تكلفة هذا الأخير قدرت بحوالي 310 مليار دينار جزائري، ويشمل بناء العديد من المرافق والإنشاءات الحيوية. من أبرز تلك الأعمال تمديد كاسرات الأمواج الرئيسية على مسافة 3100 متر، وبناء رصيف مينائي بطول 3000 متر وعمق 20 مترا، ممّا يتيح استقبال السفن الكبيرة.
كما سيتم بناء كاسرة أمواج ثانوية بطول 1300 متر، ممّا يزيد من قدرة الميناء على التعامل مع مختلف الظروف المناخية والبحرية. كما يهدف المشروع إلى توسيع المساحة الإجمالية للميناء إلى 350 هكتارا، ممّا يسمح بزيادة القدرة الإستيعابية للميناء وتقديم خدمات متعدّدة ومتنوعة. حيث تعد هذه التوسعة -حسبه- خطوة مهمة نحو تعزيز قدرة الجزائر على استيعاب حركة البضائع بشكل أكبر، إذ يتوقّع أن يرتفع حجم البضائع التي يتم تداولها عبر الميناء إلى 26 مليون طن سنويا، مع استيعاب حوالي 5 ملايين حاوية.
هذه الزيادة الكبيرة في القدرة الاستيعابية تجعل من ميناء جن جن واحدا من الموانئ الرائدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي، سيسهم بشكل مباشر في تعزيز قدرة الجزائر على التبادل التجاري مع الدول الأخرى في المنطقة، إضافة إلى فتح آفاق جديدة للتصدير نحو الأسواق العالمية.
تعزيز القدرة التنافسية
وأضاف هباش أنّ الجزائر تسعى من خلال هذا المشروع، إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية الحيوية، حيث ستسهم توسعة الميناء في تقليص التبعية للنفط والغاز من خلال دفع الاقتصاد نحو التنوع، كون أن تطوير قطاع النقل البحري يعد من العوامل الأساسية في تنمية الاقتصاد الوطني. كما أن تحسين الخدمات اللوجستية سيساعد على تسريع عمليات نقل السلع، وبالتالي تقليل التكاليف اللوجستية التي تتحملها الشركات الوطنية والدولية.
من شأن هذه الإجراءات تحسين قدرة الجزائر على التنافس في الأسواق العالمية، ممّا يعزّز مكانتها كمورد رئيسي للعديد من السلع، سواء كانت مواد خام أو منتجات نهائية. علاوة على ذلك، أردف هباش، فإنّ توسعة ميناء جن جن ستفتح المجال لخلق العديد من فرص العمل في عدة مجالات، بدءا من البناء والتشييد وحتى التشغيل والصيانة. هذا بدوره سيساهم في تقليص البطالة في المنطقة، حيث يتوقع أن يوفر المشروع آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. كما أن استقطاب الاستثمارات الأجنبية والمحلية سيكون جزءا من الفوائد الاقتصادية لهذا المشروع، حيث سيجذب الميناء المتطور العديد من الشركات العالمية التي ترغب في الاستفادة من البنية التحتية الحديثة ووجود سوق استهلاكي كبير.
انسيابية تجارية نحو أوروبا وآسيا
من الناحية التجارية، يعتبر هباش توسعة ميناء جن جن نقطة محورية في تعزيز حركة التبادل التجاري بين الجزائر والدول المتواجدة في حوض البحر الأبيض المتوسط، ممّا يُسهم في تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول أوروبا وآسيا. كما أنّ وجود ميناء قادر على استيعاب أحجام أكبر من الحاويات يساهم في تسهيل تدفّق السلع والمنتجات الجزائرية إلى الأسواق العالمية، وخاصة تلك التي تركز على تصدير المنتجات الفلاحية والصناعية. ويتوقّع أن يكون -مستقبلا- لميناء جن جن دور كبير في دعم الصناعات الوطنية الجزائرية، حيث سيسهل وصول المواد الخام اللازمة للصناعات المحلية، وكذلك سيمكّن من تعزيز صادرات المنتجات الجزائرية إلى مختلف أنحاء العالم. كما أن التوسّع في الميناء سيساهم بشكل غير مباشر في تعزيز الأمن الغذائي للجزائر، من خلال تحسين عمليات استيراد وتوزيع المواد الغذائية، وتوسيع قدراتها على استقبال شحنات المنتجات الزراعية والغذائية.
كما يمكن القول إنّ توسعة ميناء جن جن، تمثل حجر الزاوية في استراتيجية الجزائر لتطوير قطاع النقل البحري وتعزيز موقعها في سوق التجارة العالمية. فمن خلال زيادة القدرة الاستيعابية وتحسين البنية التحتية، سيعزّز الميناء دوره كحلقة وصل حيوية في سلسلة التوريد العالمية، ويشجّع على مزيد من الاستثمارات، ممّا يساهم في النمو الاقتصادي الشامل والمستدام. وبالتالي فنجاح هذا المشروع، يقول محدثنا، سيمثل نقطة انطلاق نحو تنمية اقتصادية مستدامة، حيث سيساهم في تحسين الأداء الاقتصادي العام للجزائر، ويضعها في موقع استراتيجي يعزّز من قوتها التنافسية على المستوى الإقليمي والدولي.
صـرح لوجيستـي
أكّد الخبير الاقتصادي الدكتور هواري تيغرسي أنّ مشروع توسعة وتطوير ميناء جن جن، يمثل خطوة جوهرية في سياسة الجزائر لتعزيز البنية التحتية البحرية، مشدّدا أنّ نجاحه مرتبط بالإصلاحات الإدارية مثل الرقمنة وتكثيف التنسيق بين القطاعات الوزارية ومختلف الهيئات التجارية والاقتصادية.
وككل مشروع، يرى تيغرسي في تصريحات لـ “الشعب”، أنّ الأداء المميّز المنتظر من ميناء جن جن تواجهه بعض الإشكاليات الحالية والتي اختصرها في بطء عمليات التفريغ، وصعوبة التنظيم البشري، وغياب المنظومة الرقمية الفعالة. مشاكل – في نظره - تتطلب إصلاحات إدارية وعصرنة لتسيير العمليات ممّا يضمن استمرارية الاستثمار من خلال ضمان جاهزية البنية التحتية. ورغم التحديات التي تواجهه والتي يعود أغلبها إلى ترسبات واختلالات التسيير في الماضي، يعكس مشروع التوسّعة استراتيجية طموحة يمكن أنّ تحقّق تحولا اقتصاديا كبيرا إذا تم تجاوز التحديات الفنية والإدارية والمالية، شدّد ذات المتحدث.
من جهة أخرى، وفيما يتعلّق بالبنية التحتية، يرى تيغرسي أنّ ربط الميناء بالطريق السيار شرق-غرب عبر محور جيجل-العلمة، إضافة إلى مشاريع أخرى لربطه بالسكك الحديدية ستمكّن من تعزيز التكامل اللوجستي. ممّا سيحول جيجل إلى قطب اقتصادي ومركزا لوجستيا وصناعيا محوريا في الجزائر، مع تعزيز التبادل التجاري مع أوروبا وإفريقيا عبر البحر المتوسّط، باعتبار أن تطوير البنية التحتية لاستقبال السفن العملاقة حتى عمق 20 مترا، سيمكن من استقطاب شركات شحن دولية وتحويل الميناء إلى محطة عبور إقليمية.
التكنولوجيا على رأس الحلول
بالمقابل، وبخصوص تقليص فترة انتظار السفن، أشار تيغرسي إلى أنّ تحسين الكفاءة اللوجيستية وتوفر الأرصفة الكافية والمجهزة بأحدث المعدات يساهم في تسريع عمليات الشحن والتفريغ، في حين أن بعض الموانئ، خاصة في الدول النامية، تعاني من نقص في هذه التجهيزات، ما يؤدي إلى تراكم السفن وتأخّر عمليات النقل، وإضافة إلى ما سبق فإنّ جانب آخر لا يقل أهمية هو العمق المتاح للميناء، حيث أنّ الموانئ التي تمتلك قنوات عميقة يمكنها استقبال السفن العملاقة التي تحمل كميات كبيرة من البضائع، ما يجعلها أكثر
تنافسية. ومع ذلك، تعاني بعض الموانئ من الحاجة المستمرة إلى عمليات تعميق لتتمكن من استقبال السفن الكبيرة. كما أن الإجراءات الجمركية تشكل تحديا إضافيا في بعض الموانئ، إذ أنّ سرعة أو بطء هذه الإجراءات، استطرد الخبير الاقتصادي، يمكن أنّ يؤثر بشكل مباشر على وقت بقاء السفن في الميناء، فالموانئ التي تطبق أنظمة جمركية حديثة وتستخدم التكنولوجيا لتسريع التخليص الجمركي تتمتّع بميزة تنافسية كبيرة، حيث تكون أكثر جذبا للشركات التجارية.
وعليه فإنّ النقل البحري يظل خيارا لا غنى عنه للتجارة العالمية، ولكن نجاحه يعتمد على القدرة على التكيف مع التحديات التي تشمل تقلبات أسعار الشحن، تحسين البنية التحتية للموانئ، وتسهيل ظروف رسو السفن، والبلدان التي تستثمر في تحسين موانئها وتبسيط إجراءاتها الجمركية ستكون أكثر استعدادا لجذب المزيد من التجارة والاستثمارات الدولية، ممّا يعزّز من مكانتها الاقتصادية على الساحة العالمية.
المينــاء الذكي
من جهته يرى الخبير في النقل واللوجستيك، رشيد حاج هني، أنّ البرنامج الخاص بتوسعة ميناء جن جن، كأحد أولويات السلطات العمومية سيسمح للقطب اللوجيستي البحري للجزائر من أداء دوره في رفع مستوى الصادرات، التي أصبحت اليوم محل اهتمام الأسواق الإفريقية والعالمية، كما أنّ موقع الميناء بولاية جيجل، الذي يتربع على مساحة 350 هكتار يشكل محورا بحريا استراتيجيا، مستفيدا من التكنولوجيا والرقمنة العصرية ما يجعله يستجيب لمعايير “الميناء الذكي”، خاصة ما تلق بنظام “السكانار” للمراقبة والمتابعة لدقيقة لنظام تفريغ الحاويات، إلى جانب تزويده بالرافعات الحديثة، وفق النموذج اللوجيستي البحري، “سمارت” المطبق عالميا. واعتبر هني في اتصال بـ “الشعب”، مشروع توسعة جن جن، أحد الرهانات اللوجيستية والاقتصادية التي ستغير من الخارطة التجارية البحرية لبلادنا من خلال إطلالة متوسطية، تتوسّط شرق وغرب العالم. معطيات تحرص الجزائر على استثمارها لتجسيد سياستها الاقتصادية المرتكزة على التنوع والتوجه نحو التصدير، حيث رفعت الجزائر في هذا الصدد من سقف طموحاتها لتصل إلى 30 مليار دولار آفاق 2029.
وأضاف هني أنّ ميناء جن جن، يعتبر الأول من نوعه ما يجعله مشروعا اقتصاديا بحريا بامتياز، سيمكن من خلق ديناميكية تجارية بحرية، كواجهة بحرية عصرية. وفي هذا الصدد تقاسم الخبير في النقل نفس الفكرة التي أدلى بها الخبير الاقتصادي هواري تيغرسي، من حيث ضرورة عصرنة الميناء من حيث الآليات التكنولوجية والمعايير العالمية التي ترتكز عليها، من أجل تسهيل عمليات نقل المواد لمصنعة محليا إلى الأسواق العالمية.
وفي سياق متصل، ومع النمو المستمر في التجارة البحرية العالمية، والحاجة لتصميم بنية تحتية قابلة للتوسّع والتكيف مع الطلبات المتزايدة من الشركات التجارية العالمية، أوضح رشيد هني، أنّ ميناء جن جن، بهيكلته الجديدة، سيكون قادرا على تنفيذ خطط تطوير مرحلية تساهم في توسيع قدرة المنتجات الجزائرية على تخطي النطاق المحلي، خاصة وأنّ الجزائر تربطها اتفاقيات هامة، على غرار اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية أو الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، ممّا يرفع من احتمالية عبور ومرور السفن عبر الجزائر خاصة من دول مثل الصين والهند للاستفادة من بنود هذه الاتفاقيات خاصة ما تعلق بالتخفيضات الجمركية، حيث أنه على سبيل المثال، الصين التي تواجه العديد من العراقيل الجمركية للدخول إلى الأسواق الأوروبية، ومن ثم وجود ميناء بهذا الحجم ووجود اتفاقيات بهذه البنود المشجّعة على التعاون البيني الدولي، من الممكن جدا أن تكون عوامل مرجّحة ومحفّزة للطرف الصيني وغيره من الشركاء العالميين المهتمين بالاستثمار بالجزائر. لتوطين صناعات في الجزائر أو الاعتماد على تجارة “الترانزيت”.