نموذج تنمـوي يعزّز مكانتها الطاقوية على الساحــة الدوليـة

الجزائر الخضراء..اقتصاد مُستـــدام ورؤية تتجسّد

هيام لعيون

الرئيـس تبــون يـولي الطاقـات النظيفــة أولويــة وطنية

تجهيز منجم غـارا جبيلات بمحطــة شمسيـة كهروضوئيـة بقدرة 200 ميغــاواط

تشرع الجزائر بخطى ثابتة في مرحلة تنموية جديدة، محورها تنويع مصادر الطاقة وتقليص الاعتماد على المحروقات. هذا التوجه الاستراتيجي يرسّخ مكانة البلاد كلاعب رئيسي في مشهد الطاقة العالمي، عبر الاستثمار في الطاقة الشمسية والانخراط الجاد في سباق الهيدروجين الأخضر.
يهدف هذا المسعى الطموح إلى تحقيق جملة من الأهداف المحورية: الحفاظ على الغاز الطبيعي وتثمينه كاحتياطي استراتيجي، وتنويع مصادر الدخل الوطني بما يضمن استقراراً اقتصادياً على المدى الطويل، بالإضافة إلى الالتزام بالتنمية المستدامة عبر تبني الطاقات النظيفة.

حققّت الجزائر خلال العهد الجديد بقيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، قفزة نوعية للطاقات المتجددة، مع إطلاق المرحلة الأولى من البرنامج الوطني للطاقات المتجددة 15000 ميغاواط في آفاق ـ 2030-2035 ــ، في النصف الأول من سنة 2024، ومباشرة إنجاز سلسلة المحطات الأولى للطاقة الشمسية الكهروضوئية بقدرة إجمالية أولية تقدر بـ 3000 ميغاواط لهذه المرحلة الأولى فقط.
كما باشرت بلادنا عملية تجهيز منجم غارا جبيلات للحديد بمحطة شمسية كهروضوئية بقدرة 200 ميغاواط، بما سيرفع من قدرات الطاقات المتجددة في الجزائر من 600,9 ميغاواط جرى تركيبها حتى نهاية 2023 إلى 3800 ميغاواط.
 ويمثل هذا المشروع القاعدة الأساسية لتطوير قدرات الجزائر في تصدير الكهرباء ذات المصدر المتجدّد، لما له من أهمية حيوية للجزائر ولشركائها في الضفة المتوسطية الأخرى، وشركائها في منطقة الساحل وجنوبه، والتي تمثل العمق الإستراتيجي للجزائر.
هذه القفزة الكبيرة تأتي بعد أن حققت الجزائر، في مجال الطاقات المتجدّدة في السنوات الأخيرة ــ 2019-2023ــ، إضافات في سعة إحلال الطاقات المتجدّدة بمقدار (61,4 ميغاواط)، حيث بلغت سعة الطاقات المتجددة المركبّة في الجزائر خلال الفترة الممتدة بين 2019 و2023، وفقا لتقرير صادر عن محافظة الطاقات المتجدّدة والفعاليات الطاقوية المتعلق بالطاقات المتجدّدة في الجزائر لسنة 2023، إنتقالا من 539,5 ميجاواط في عام 2019 كسعة إجمالية للطاقات المتجددة بما فيها الكهرومائية، لتقفز فوق عتبة  600 ميغاواط في سنة 2023، لتحقق سعة 600,9 ميغاواط.
وتسعى بلادنا ضمن هذا الاطار على اعتماد الطاقات الجديدة والنظيفة بإمكانيات وخبرة جزائرية، حيث ان الجزائر تعمل في هذا الإطار، من خلال مشاريع مزدوجة في المجال، لأن هذا النوع من الطاقات تحتاج إلى استثمارات ضخمة خاصة وان العديد من الدول الأوروبية أبدت استعدادها للاستثمار في هذا المجال من خلال نقل التكنولوجيا من الدول الأوروبية إلى الجزائر وبانجاز أيادي جزائرية خالصة.
ومن بين أهم المشاريع في هذا المجال، يبرز الربط الكهربائي والممر الجنوبي للهيدروجين بين الجزائر أوروبا، الذي سيكون حافزا للتحوّل الطاقوي ودعما للازدهار المشترك في منطقة البحر المتوسط وأوروبا.
وفي هذا السياق، فإن الجزائر وبفضل موقعها الجغرافي الفريد وقربها من أوروبا، تمتلك الجزائر كل المقومات لتكون منصة إقليمية رائدة في تصدير الطاقة النظيفة، سواء عبر الأنابيب أو في شكل غاز سائل، ومع دخول مشاريع الهيدروجين حيز التنفيذ خلال السنوات القادمة، ستتحوّل الجزائر تدريجيا إلى فاعل محوري في الأمن الطاقوي الأوروبي.

الطاقة النظيفة أولوية وطنية

في أكثر من مناسبة، أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أن الجزائر لن تتخلّف عن التحوّلات العالمية نحو الطاقات الخضراء، ووجّه تعليمات صريحة لتسريع الانتقال الطاقوي، حيث تم إدراج ملف الطاقات المتجدّدة ضمن أولويات سياسة كل الحكومات المتعاقبة منذ 2020.
ومن أهم القرارات التي انبثقت عن هذه الرؤية الاستشرافية للقائد الأول في البلاد، إنشاء هيئة مستقلة لمتابعة مشاريع الطاقة النظيفة وتتجسّد اليوم كتابة الدولة لدى وزير الطاقة المكلف بالطاقات المتجدّدة، كما تم تشجيع الشراكات الأجنبية ذات القيمة التكنولوجية، خاصّة في مجالات الهيدروجين الأخضر، فضلا عن حثّه على استعمال الطاقات النظيفة في بلادنا.
وقد أمر رئيس الجمهورية في هذا السياق قبل ثلاث سنوات “بالتوجه وفق برنامج مدروس لإنتاج الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية”.

تطوّر الربط البيني الوطني

كما أن الجزائر، في إطار ممارسة “دبلوماسية الكهرباء”، مستعدة لإمداد شركائها الأوروبيين بالطاقة الكهربائية، بإمدادات يمكنها أن تتجاوز  (50 تيرا واط ساعي) في المرحلة الأولى، وبالإمكان أن تتجاوز (90 تيرا واط ساعي) لاحقا حين دخول محطات الطاقة الشمسية حيز الخدمة مع استكمال تنفيذ البرنامج الوطني (15000 ميغاواط) من الطاقات المتجدّدة، على شكل هدروجين أخضر
وتعمل الجزائر ضمن هذه الرؤية بعيدة المدى على بناء توافقات مع الشركاء الأوروبيين في إطار متين، من خلال إعداد “شبكة الكهرباء”، بداية بتطوير الربط البيني الوطني للشبكة الوطنية للكهرباء بين جزئيها الشمالي والجنوبي، بإستثمار ما يقارب 3 مليار دولار، حيث تقدّر كلفة مشروع ربط الجزء الجنوبي لشبكة الكهرباء بالشبكة الوطنية بـ 200 مليار دينار.
ويكتسي هذا المشروع أهمية حيوية للجزائر ولشركائنا في شمال ضفة حوض المتوسط، وأيضا لجيراننا وفي منطقة الساحل وجنوبه، والتي تمثل العمق الإستراتيجي للجزائر، حيث يعتبر استجابة منطقية لرهانات استغلال إمكانياتها الهائلة والمعتبرة من الطاقات المتجددة، على الخصوص الطاقة الشمسية في صحرائنا الكبرى.
وهذا من أجل تعزيز إمدادات الكهرباء المحلية بشكل كبير، كما سيفتح للجزائر آفاقا جديدة واعدة لتصدير الكهرباء النظيفة نحو الضفتين الأوروبية والإفريقية.

لاعب أساسي في نادي الهدروجين الأخضر

كما أبدت الجزائر اهتماما كبيرا بالهيدروجين الأخضر باعتباره موردا طاقويا واعدا ومصدرا للتنويع الاقتصادي، ففي سنة 2022، أعدت وزارة الطاقة والمناجم خارطة طريق لتطوير الهيدروجين الأخضر في أفق 2040، حيث تم توقيع عدّة مذكرات تفاهم مع شركاء دوليين.
وتهدف هده الخارطة إلى الاستفادة من الطاقة الشمسية الوفيرة لإنتاج الهيدروجين، وتوجيهه للاستخدام الصناعي والتصدير، خصوصا نحو السوق الأوروبية التي تبحث عن شركاء موثوقين، حيث “ تطمح بلادنا إلى الاستفادة من إمكانياتها التقنية ومزاياها التنافسية لإنتاج وتصدير ما بين 30 و40 مليار كيلوواط ساعي، في شكل هيدروجين غازي وسائل وكذا مشتقاته وتزويد السوق الأوروبية بحوالي 10 بالمائة بحلول عام 2040 من حاجياتها وبسعر بيع تنافسي للغاية، حيث يمكنّها ذلك من تحقيق مداخيل سنوية تقدّر بحوالي 10 مليارات دولار وفق احصائيات رسمية.
وتشارك في هذا التوجّه المؤسسات الكبرى على غرار العملاق النفطي سوناطراك، وسونلغاز، ومراكز البحث، إلى جانب شركات أجنبية أبدت اهتمامها بإقامة مشاريع نموذجية في بلادنا.
وفي هذا الإطار، تم خلال شهر ماي من السنة الجارية، التحضير لمشروع مدمج لإنتاج الهيدروجين الأخضر لتلبية احتياجات صناعة الحديد والصلب بمركب توسيالي من قبل مجمع سوناطراك، بالتعاون مع مجمع سونلغاز والشركة الامريكية للطاقات المتجددة هيكاتي.
ووقعّت سوناطراك خلال شهر جوان الماضي، مذكرة تفاهم مع شركة هيكاتي إينيرجي غلوبال رينيوبالز الأمريكية، وشركة توسيالي آيرون ستيل إينداستري الجزائر. وبموجب هذه المذكرة سيتم القيام بدراسات مشتركة لتطوير مشروع مدمج لإنتاج الهيدروجين الأخضر انطلاقاً من الطاقات المتجددة لتلبية احتياجات صناعة الحديد والصلب. بحسب بيان سوناطراك.
كما تم الإعلان عن دراسات تقنية بين الجزائر وعدد من الشركاء الأوروبيين لإنجاز مشاريع تصدير عبر أنابيب الغاز، لربط الجزائر مباشرة بأسواق جنوب أوروبا، خاصة إيطاليا وإسبانيا، باستخدام الشبكات الغازية القائمة بعد تكييفها لنقل الهيدروجين، حيث جسّد مشروع الممّر الجنوبي (Corridor Sud H2) لنقل الهيدروجين الأخضر المنتج في الجزائر الى ايطاليا والدول الاوروبية مقاربة شراكة مبنية على المصالح المشتركة وفق رئيس مكتب المغرب العربي بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي الايطالية، فيليبو كولومبو، في تصريحات سابقة له.
وتسعى بلادنا ضمن هذه الرؤية لتصدير الطاقة النظيفة نحو أوروبا المتعطشة لهيدروجين أخضر نظيف ومنخفض التكلفة، خاصة وأنها تملك شبكة أنابيب وتسهيلات بنية تحتية مؤهلة لأن تكون جسرا طاقويا بين إفريقيا وأوروبا.
كما تتمتع الجزائر، بتكلفة إنتاج منخفضة للهيدروجين الأخضر بسبب توفر الطاقة الشمسية والموقع الجغرافي القريب من أوروبا وبنية تحتية قوّية من أنابيب الغاز.
ويعتبر هذا المسار الذي بدأته الجزائر المنتصرة اليوم في كافة المجالات على غرار مجال الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، مسارا استثماريا وعلميا يتجسد ميدانيا، وفق نظرة استراتيجية واضحة تراهن على استثمار الموارد الطبيعية والطاقات الوطنية، وتعتمد على شراكات دولية فاعلة، وهذا للوصول ببلادنا في أفق 2040 ضمن الدول الرائدة إقليميا في تصدير الطاقة النظيفة، وهو ما يفتح أمامها آفاقا جديدة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والطاقوية على الساحة الدولية، وفق نموذج تنموي يوازن بين الاستدامة الاقتصادية، السيادة الوطنية، والشراكة الدولية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19815

العدد 19815

الأحد 06 جويلية 2025
العدد 19814

العدد 19814

السبت 05 جويلية 2025
العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025