تقليص فاتـــورة الاستـيراد وفتح مجالات جديـدة للتصديــر
خيـــار محــوري لإعـادة بنـاء اقتصـاد متنـوع وقـوي
عودة قويـة للمشاريـع الاستراتيجيـة.. وإنشاء أقطاب إنتاجية كبرى ضمن الأولويـات
تحتل الصناعة الوطنية صدارة الرّهانات الإستراتيجية للجزائر، باعتبارها قاطرة حقيقية للتنمية وأحد أبرز ركائز السيادة الاقتصادية، فمنذ انتخاب الرّئيس عبد المجيد تبون، برزت الصناعة كخيار محوري لإعادة بناء اقتصاد متنوع وقوي، يمكّن الجزائر من تقليص تبعيتها للمحروقات والانفتاح على أسواق جديدة. ويؤكّد التغيير الحكومي الأخير مجدّدا هذا التوجه، من خلال إسناد حقيبة الصناعة إلى الوزير الجديد يحيى بشير يحمل مسؤولية مضاعفة الجهود وتجسيد رؤية الدولة على أرض الواقع.
يندرج التغيير الحكومي الأخير، الذي أقرّه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وما صاحبه من تعيين وزير جديد للصناعة، ضمن مسعى شامل يهدف إلى تعزيز مكانة الجزائر الاقتصادية إقليميا ودوليا، لاسيما وأنّ القطاع الصناعي مرشّح ليكون المحرّك الأساسي لتنويع الاقتصاد الوطني، وإخراجه من التبعية لقطاع المحروقات، وبوابة الجزائر نحو مرحلة جديدة من النمو المستدام، بالنظر إلى الأرقام الإيجابية المحقّقة في السنوات الأخيرة نتيجة إرادة سياسية راسخة.
في هذا السياق، برز توجّه السلطات العمومية إلى جعل الصناعة أولوية الأولويات، عبر تشجيع الإنتاج الوطني في مختلف المجالات، من الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والإسمنت، إلى الصناعات التحويلية والفلاحية، وصولا إلى الصناعات التكنولوجية والرّقمية.
تعكس هذه الدينامكية قناعة راسخة بأنّ مستقبل الجزائر الاقتصادي مرهون بقدرتها على بناء نسيج صناعي متين، يُسهم في خلق الثروة ويوفّر مناصب شغل دائمة للشباب.
علاوة على ذلك، فقد رافقت هذه الاستراتيجية إجراءات عملية عزّزت مناخ الأعمال وفتحت المجال أمام الاستثمارات الوطنية والأجنبية. وبلغة الأرقام، فإنّ الصادرات الجزائرية خارج المحروقات بلغت 10 مليارات دولار سنة 2023، وهو رقم قياسي يؤكّد فاعلية التوجه الصناعي الجديد للبلاد.
من جهة أخرى، أولى الرّئيس تبون أهمية بالغة لدعم المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، والمناولة الصناعية بشكل خاص، باعتبارها ركيزة لتقليص الواردات وتلبية حاجيات السوق المحلية، فقد بلغ عدد المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة الناشطة في الجزائر 1.2 مليون مؤسّسة، ما يعكس الديناميكية المتنامية التي يشهدها القطاع الصناعي.
في هذا الإطار، ينتظر من الوزير الجديد أن يمنح دفعا إضافيا لهذه المؤسّسات، سواء من خلال تسهيل إجراءات التمويل أو تعزيز آليات المواكبة والتكوين، بما يسمح لها بالاندماج الفعلي في النسيج الاقتصادي الوطني.
كما أنّ الصناعات التحويلية ستحظى بعناية خاصة في أجندة الوزير الجديد، لما لها من دور في تثمين الثروات الطبيعية والفلاحية وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة، تسوّق محليا وتصدّر خارجيا تحت علامة “صنع في الجزائر”.
بالموازاة مع ذلك، يشكّل دعم المؤسّسات الناشئة والمشاريع المبتكرة إحدى الركائز الجديدة في سياسة الجزائر الصناعية، فقد تمّ إنشاء صندوق وطني خاص بتمويل هذه المشاريع، في خطوة تهدف إلى بناء اقتصاد قائم على المعرفة والتكنولوجيا.
وبحسب الأرقام الرّسمية، فقد استفادت أكثر من 4000 مؤسّسة ناشئة من مختلف آليات الدعم منذ 2020، وهو ما يؤكّد الإرادة السياسية في ربط الصناعة بالتطور التكنولوجي والرّقمي.
إلى جانب ذلك، يبرز رهان الطاقات المتجدّدة كأحد المحاور المستقبلية التي ستشكّل قيمة مضافة للصناعة الجزائرية، خاصة في ظل التوجّه العالمي نحو الاقتصاد الأخضر. فالجزائر تراهن على استغلال إمكاناتها الكبيرة في الطاقة الشمسية والرياح لخلق صناعة محلية في مجال الطاقات النظيفة، ما يسمح بتقليص فاتورة الاستيراد وفتح مجالات جديدة للتصدير.
أما فيما يتعلّق بالشراكات الدولية، فإنّ الوزير الجديد سيواصل الجهود الرامية إلى استقطاب استثمارات نوعية قائمة على مبدأ رابح-رابح، مع التركيز على نقل التكنولوجيا والخبرة.
وينتظر أن تستفيد الجزائر بشكل أكبر من انضمامها إلى منطقة التجارة الحرّة القارية الإفريقية، ما يتيح فرصا واسعة لتسويق منتجاتها الصناعية نحو القارّة الإفريقية.
في هذا الإطار، تشكّل إفريقيا فضاءا استراتيجيا للمنتجات الجزائرية، التي يمكن أن تغزو أسواقها بجودة وسعر تنافسي، خاصة في قطاعات الإسمنت، الحديد، الصناعات الغذائية والأدوية، بحسب تأكيد بعض الخبراء الاقتصاديّين.
من جهة أخرى، فإنّ بعث الصناعات الثقيلة يبقى أولوية قصوى، خاصة في مجالات الحديد والصلب والبتروكيماويات، إلى جانب الصناعات الميكانيكية والسيارات.
وقد سجّلت عودة قوية لهذه المشاريع الاستراتيجية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك مصنع بلارة للحديد والصلب بجيجل، الذي يعدّ أحد أكبر المشاريع في إفريقيا.
علاوة على ذلك، فإنّ إنشاء مناطق صناعية جديدة عبر ولايات مختلفة، وتجهيزها بكل المرافق الضرورية، سيسمح بخلق أقطاب إنتاجية كبرى قادرة على رفع الناتج الداخلي الخام بشكل ملحوظ، وهو ما ينسجم مع أهداف المخطّط الوطني للتنمية الصناعية، الذي يضع آفاقا واضحة لآفاق 2030.
في هذا السياق، لا يفوت التذكير بأنّ الرئيس تبون شدّد في أكثر من مناسبة على أنّ الجزائر لن تستورد ما يمكن إنتاجه محليا، معتبرا الصناعة معركة سيادة ينبغي ربحها بأي ثمن، وهي رؤية واضحة تعكس أنّ التغيير الحكومي الأخير ليس مجرّد تعديل تقني، بل هو تأكيد سياسي على مواصلة دعم الصناعة كخيار استراتيجي لا رجعة فيه.