أسواق تنشط خارج القوانين و»أخلاق» التاجر الغائب الأكبر

ميزانية رمضان.. أو لمّا تختلط حسابات المستهلك العادي

سعيد/ ب.

هل يمكن ضبط ميزانية لمصاريف شهر رمضان أو غيره من المواسم التي يحتفي بها الجزائريون؟. إنه سؤال يعود كل سنة لتكون نفس الإجابة بحيث من الصعب أن يتحقق ذلك في ظل عدم استقرار المؤشرات المتعلقة بالأسعار.  لذلك ما أن يشرع المستهلك العادي في ترتيب حساباته حتى تختلط عليه الأمور اليومية بعد أن يفاجأ بمعطيات مخالفة لتلك التي ضبط أثناءها حساباته، فيقع في قبضة من يتربصون به من تجار وباعة حوّلوا المناسبة إلى موعد للاغتناء وتحقيق الربح السهل.
كان في السنوات الماضية تقليد للتجارة في رمضان يتمثل في تسجيل ارتفاع فاحش للأسعار في الأسبوع الأول تليه مرحلة تراجع بداية من الأسبوع الثاني فيكون للمستهلك متوسط ومحدود الدخل مجال لاقتناء حاجياته دون الشعور بما يشبه الاختناق.
لكن هذه السنة اختلفت اللّعبة بعد أن حافظت أسعار المواد الغذائية العادية بما فيها التي تقطف في هذا الموسم على التهابها بالرغم من مرور 15 يوما من الصيام، مما يثير تساؤلات قد تكون مكرّرة للأسف عن مدى انتظام الحركة التجارية وجدية ضبط المسارات التي تسلكها البضائع والسلع من على امتداد الحلقات.
 بالطبع لا تزال التجارة في وضعنا الراهن ومنذ تحريرها وإطلاق العنان للتجار بكافة أصنافهم في التعامل بأسعار لا يحكمها قانون ولا تحدها أخلاق تنتظر ساعة الضبط وإخضاع المهنة إلى قواعد التعامل السليم والشفاف، ذلك أن اقتصاد السوق بقدر ما يعني حرية العمل وحرية الأسعار بقدر ما يرتكز على أدوات ضبط النشاطات ومراقبة هوامش الربح من حيث احترامها للمعايير.
كل هذه النقائص التي تقاوم مختلف إجراءات التنظيم الهشة التي تبادر بها من حين لآخر الجهات المعنية بقطاع التجارة تنعكس سلبا على القدرة الشرائية للمواطن العادي فتختلط عليه الحسابات وتفلت منه أمور التعامل المتوازن مع السوق.
ما عدا مواد الحليب والخبز والدقيق نسبيا التي لا تزال تخضع لأسعار محددة رسميا وتحظى بدعم من الدولة، فإن باقي المواد تخضع لنزوات وحسابات المتحكمين في دواليب التجارة من المستورد الى المنتج في الفلاحة والصناعة الغذائية، مرورا بتجار الجملة والتجزئة بحيث يتفقون ضمنيا على جعل رمضان موسما للاغتناء ومن ثمة السيطرة على المستهلك وإلزامه بالخضوع لقانون سوق فوضوية يتخّفى أصحابها من «بارونات» وسماسرة ومضاربين وراء شعار «اقتصاد السوق.»
هذا المصطلح الذي أفرغ من محتواه منذ تكريسه، عقب تغيير النظام الاقتصادي يراد به باطل أكثر مما يحمله مضمونه ويتعرض للتشويه، ويكفي النظر للكيفية التي يطبق بها في البلدان الرأسمالية نفسها لمعرفة مدى وحجم الاختلاف. فالمصطلح واحد لكن الممارسات تختلف في العمق كون في تلك المجتمعات يعتبر التاجر متعاملا يلعب دورا في المنظومة الاقتصادية من خلال التزامه بقواعد اللعبة التجارية فيقبل الشفافية ويحترم المناسبات ومقتضياتها، كما أنه يعلم أن أي انحراف يعرّضه لتبعات المراقبة التي تحمي السوق وتضمن توازن المصالح بين أطرافه.
  قامت السلطات العمومية المختلفة مرارا بمحاولات لكسر شوكة الدخلاء على الأسواق وتطهير الساحة من النشاطات الموازية غير أن النتائج لا تزال محدودة على اعتبار أن الداء يكمن أساسا في منبع البضاعة ومصدر السلع سواء من المزارعين بالنسبة للمواد الفلاحية أو المستوردين بالنسبة لمختلف المواد الغذائية، وكذا شريحة واسعة من الصناعيين الذين يبحثون دوما عن مبررات يصعب هضمها مثل تراجع قيمة الدينار وارتفاع حجم الطلب وغيرها من ادعاءات لم تعد تقنع أحدا.
 تعاني السوق الغذائية حقيقة من لا توازن بين أطرافها بحيث تعود الغلبة للتاجر على حساب المستهلك العادي متوسط الدخل الذي يضطر للاجتهاد والترشيد من أجل أن يحافظ على الحد الأدنى من موارده تحسبا لمواجهة متطلبات أخرى تلوح في الأفق مثل اقتناء ملابس عيد الفطر لأبنائه وضمان رصيد للدخول الاجتماعي.
 بطبيعة الحال لا يوجد مثل هذا الضيق لدى من هم في أريحية مالية فتراهم ينزلون إلى الأسواق يقتنون بكميات غير عادية دون السؤال عن الأسعار مساهمين بذلك في الإخلال بقاعدة العرض والطلب ومن ثمة التهاب الأسعار تحت وطأة جشع يسيل اللّعاب فيما يدفع المواطن البسيط الثمن أمام تجار تجردوا من أدنى أخلاقيات مهنة نبيلة ذات طابع اجتماعي واقتصادي، علما أن التاجر الجزائري يحمل في ذاكرة مهنته صفحات رائعة في النضال والفداء ضمن الحركة الوطنية وثورة التحرير ومن أبرز نضالات التجار الحقيقيين إضراب الثمانية أيام استجابة لنداء الثورة التحريرية إبان الاحتلال الفرنسي.
لكن أين هم اليوم من أولئك المخلصين الذين كانوا يولون عناية للقدرة الشرائية ويدافعون عن زبائنهم بضمان أسعار في المتناول وبذل الجهد أمام تجار الجملة للحصول على أسعار معقولة على اعتبار أن المواطن هو مصدر رزق التاجر ومن صالحه أن تبقى قدرته الشرائية على درجة من القوة لتستمر دواليب السوق.
 بالنظر لارتباط نشاطهم بالأمن الغذائي واستقرار المجتمع بتأمين ديمومة السوق، فإن التجار مطالبون بالعودة إلى قيم المهنة وأصولها فيما ينتظر أن تصعد الجهات المكلفة بالرقابة من نشاطها باستهداف كل النقائص المسجلة وقطع دابر الفساد التجاري، وذلك بالشروع في رصد المخالفات الكبيرة على مستوى أسواق الجملة والإسراع في إرساء الترتيبات التنظيمية المطلوبة حتى ينخرط كافة العاملين في القطاع في المشهد الشفاف.
 لقد أصبح من الضروري في وقت تحررت فيه الأسعار إلزامهم بالانصياع للمعايير من إشهار واضح للأسعار وفوترة المعاملات والنظافة سواء للمواد والمحلات أو المحيط حيث يلاحظ على مستوى مختلف الأسواق بما فيها أسواق الجملة للخضر والفواكه خاصة، تراكم لكميات لا يمكن تصورها من المواد الفاسدة كان بالإمكان أن تدخل الأسواق لو خفض أصحابها من أسعار البيع.
 ينبغي أن يمتد التشخيص إلى فضاءات التخزين والتبريد التي تعتبر منعرجا دقيقا للمنتجات التي تستقدم من المزارع والمستثمرات والمحيطات الفلاحية التي تستفيد من دعم ومرافقة الدولة، غير أن أصحابها المستفيدين من جملة تحفيزات وإعفاءات لا يحترمون التعهدات ومن بينها الحرص على ضمان الوفرة بانتظام ومكافحة المضاربة التي لا تزال بمثابة فيروس يفسد التجارة التي تلعب دورا في تحريك الاستثمار وتنمية النمو ومن ثمة تخضع لمبادئ وقيم أبرزها الشفافية والامتناع عن الغش ونبذ التهرب واحترام المقادير في وقت أصبحت فيه ظاهرة سرقة الميزان مشكلة أخرى تقتضي العلاج من المؤسسات ذات الاختصاص.
وقد يكون النصف الثاني لرمضان فرصة أخرى لمعشر التجار للعودة إلى جادة الصواب برد الاعتبار لمهنتم النبيلة وهو ما يمكن لاتحاد التجار أن يشارك فيه من خلال النزول إلى الميدان بروح من المسؤولية لتوعية منخرطيه والمنتسبين إليه بأهمية ضمان قوت المجتمع عن طريق الامتثال للقانون والأخلاق المهنية على الأقل بعدم التلاعب بهوامش الفائدة وقبول اعتماد نظام الفوترة في وقت توفر فيه التكنولوجيات المعلوماتية الحديثة إمكانيات معتبرة لتجسيد ذلك بحيث يجب الوصول إلى مرحلة يحصل فيها كل طرف على حقه المشروع وبعقلانية لتأمين استقرار السوق وتمكين المواطن المستهلك من ضبط ميزانيته الشهرية أو المناسباتية.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024