في ظل نجاح الوساطة الجزائرية لحلّ الازمـة الماليـة

المصالحة الوطنية نموذج لبنـاء الدولة من جديد

نور الدين لعراجي

نجحت الدبلوماسية الجزائرية في إقناع الأطراف المتنازعة للجلوس إلى طاولة الحوار، والإمضاء على ميثاق السلم والمصالحة الذي سيكون قاسما مشتركا بين كل الفصائل والحركات المتنازعة حول الأرض، في خطوة تعتبر ايجابية بالنظر إلى تاريخ الصراع القائم منذ نصف قرن تقريبا. المهمة التي أوكلت للجزائر من أجل الوساطة وحلحلة المعضلة ليست بالمهمة السهلة في ظل التداعيات الموجودة على طول الساحل الإفريقي، مع ازدياد هوة التراكمات التي ورثتها دولة مالي جراء الأحداث الاثنية والعرقية التي شهدتها طيلة عقود من الزمن، ممّا أدى إلى تهلهل وتخلخل البنى المؤسساتية داخل هرم السلطة والجيش، ودخول هذا الأخير معترك الأحداث مثل ما حدث مع حالة الانقلاب الأخيرة منذ سنتين داخل هرم المؤسسة العسكرية، ممّا ساهم في الانفلات الأمني وتراكم أحداث الشغب، ودخول الفصائل الأزوادية والتوارق المشهد الأمني، معقّدا بذلك حلحلة القضية على أكثر من صعيد.
توارث المشهد المالي تراكمات كثيرة وبالجملة سواء تلك التي تعلقت بالنسق الاجتماعي والسياسي والأمني أو تلك التي أسالت الكثير من الرهانات الدولية، في أنه لا مجال للحلول السلمية على الأرض المالية إلا العمل العسكري، الذي كان في اعتقاد بعض الدول الغربية خيارا حتميا لابد منه، مما زاد الكثير من المخاوف سواء على الصعيد الداخلي، فاسحا المجال لتزايد المد المسلح للمساهمة بشكل غير مباشر في تغييب سلطة الدولة والقانون، أما على الصعيد الخارجي تزايد الأطماع الغربية حول مالي وحول منطقة الساحل الافريقي ككل باعتبارها دولة مفتوحة نحو شمال وغرب إفريقيا.  
هذه التداعيات جعلت الجزائر في حالة من التأهب لمعالجة القضايا العالقة في ظل تزايد حدة التوتر على الأراضي الليبية ودخول مشاهد التسلح والاقتتال بين الفصائل والحركات المتنازعة، هذا مع غياب أيضا سلطة الدولة الواحدة التي يمكنها التدخل في منع ومراقبة دواليبها، مما انجر عنه التسلح العشوائي وتزايد تجار السلاح على طول الحدود، التي أصبحت لا تخضع للمراقبة الدائمة ولا حتى الدورية، وهما عاملان أيضا يولّدان الكثير من المتاعب لمالي ولدول الجوار أيضا. من هذا المنطلق كان حرص الجزائر على استعادة حالة الأمن والاستقرار على الأراضي المالية من أولى الأولويات.
القواسم المشتركة بين باماكو والجزائر
 هذا الاهتمام يعود أيضا إلى حرص الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على مساعدة مالي في تخطّي أزمتها، ومساعدتها للنهوض من جديد كدولة لها من المؤهلات والمقومات أن تستعيد مجدها ورصيدها الاقتصادي بعد عودة الامن والاستقرار إليها، بالإضافة إلى أنّ مالي بالنسبة للجزائر كانت تمثل القاعدة الخلفية إبان الثورة التحريرية، سواء للسلاح الذي كانت تزوّد به الولاية الاولى التاريخية عن طريق بوابة وادي سوف، كذلك مساهمتها في بعث المد التحرري واحتضانها أبناء الجزائر في تلك الفترة من بينهم رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة المدعو عبد القادر مالي ورفيقيه محمد الشريف مساعدية ومصطفى معزوزي.
حرص رئيس الجمهورية على معالجة الملف المالي على أعلى مستوى في هرم الدولة، جاء منطلقه من هذا الامتداد التاريخي والنضالي الذي يجمع بين الشعبين، مما يعني سلامة مالي واستقرارها هو استقرار للجزائر وسلامة حدودها.
العد التّنازلي للتّوافق والخروج من الأزمة
ساهمت الدّبلوماسية الجزائرية بشكل كبير في الذهاب إلى التوقيع بالأحرف الأولى على أرضية الجزائر بين الفصائل والحركات الازوادية المتنازعة، وهي نقطة إيجابية يجب الاشادة بها نظرا للدور الذي قدمته وساهمت فيه بشكل كبير، لم تكن في الحقيقة بالسهلة أو البسيطة نتيجة الذهنيات والأفكار التي يحملها كل فصيل من هذه الحركات واستحواذها على مناطق مهمة من الأراضي المالية، ناهيك عن بعض الخيارات التي بادرت بها بعض الأطراف في إطار مقاربات لم تكن نتائجها بالجدية ولا تحمل الحلول النهائية للمعضلة، بل تعمّق من حدة الصراع وتزيد في عمره. رغم أنّ المبادرة الجزائرية جاءت في مجملها واضحة دون تحيّز لطرف أو دعوة جهة دون أخرى، وهذه الحنكة والفطنة السياسية جعلت المجموعة الدولية تولي الكثير من الاهتمام إلى الجزائر عند نجاح مسعى المصالحة الوطنية في الأراضي المالية.
إنّ اتفاق باماكو أصبح اتفاقا مرجعيا لكل الفصائل، وهو الحلقة المفقودة منذ نصف قرن، هو عرس كل الماليين، لأن السلم والمصالحة الوطنية هي تسوية مستدامة للوضع الأمني في البلاد جميعها، حيث لا يمكن الاستغناء عن أي جهة مهما كانت،هذا معناه أنّ أصحاب اتفاق باماكو الأخير الممضى على ديباجته في الخامس عشر من شهر ماي المنصرم شهد ممثل الحكومة المالية، إلى جانب كل الحركات المالية منها السياسية والعسكرية لشمال مالي ماعدا تشكيلات حركات الازواد الاخرى التي تأخرت في الامضاء على ميثاق السلم والمصالحة وهي فرصتها الأخيرة للانضمام، فليست أمامها أي مبررات اخرى تمنعها من ذلك، لتحذو حذو التشكيلات الخمسة التي تضمها التنسيقية حركات الازواد، التي من بينها التنسيقية من أجل شعب الأزواد وتنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، بالتالي فإنّ كل الظروف مواتية للذهاب نحو السلم والمصالحة مع إعادة بناء مالي كل من موقعه، وترك كل ما من شأنه أن يزيد الهوة ويعرقل عملية البناء من جديد.
إنّ استمرارهما في شدّ الحبل من الوسط ليس في مصلحتهما تماما أمام الظروف المزرية التي يعيشونها، جراء تدهور الحياة الاجتماعية نحو الأسوء وانتشار مظاهر التخلف والعوز والأمراض وعزوف الاطفال عن الذهاب إلى مدارسهم التي حولت الى مراكز التسليح خاصة في كيدال، مع تزايد عصابات الرق التي يساعدها الظرف الحالي في مواصلة سياسة الرق وتجارة المخدرات وتهريب السلاح، مما يهدد حياتهم سواء عن طريق الالغام المزروعة أو عن طريق مظاهر الاقتتال التي تسجلها البعثات الأممية في تقاريرها باستمرار.
تضمّنت أرضية باماكو في 15 ماي المنصرم كل المسائل العالقة، وقدّمت الحلول التي يجب الاتفاق عليها والمحطات التي يجب أيضا التوقف عندها، حتى لا يعاد سيناريو الاقتتال والانقسام من جديد. لتطوي بذلك مالي مسلسل الدم إلى الأبد، فاتحة أفق التحول الديمقراطي في قاطرة المصالحة الوطنية كمشروع نموذجي لجميع الأطراف.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024
العدد 19455

العدد 19455

الجمعة 26 أفريل 2024
العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024