في حضرة الدم الفلسطيني تولد الحكايات من رماد البيوت، وتنهض النساء كما الجبال، لا تلين، لا تستكين، لا تتراجع ولو على حد السكين. من بين الركام، ومن بين المخيمات التي تفتك بها الريح والرصاص والجوع، صعدت زكية شموط لتكون اسماً لا يُكتب إلا بمداد من نار، صوتاً لا يُروى إلا من لهيب، امرأة كسرت معايير الزمن والمكان لتكون التجسيد الحي لامرأة بحجم وطن..
لم تكن زكية مجرد فدائية تنتمي إلى التنظيم أو بندقية تأتمر بأمر الثورة، بل كانت بحد ذاتها معنى الثورة، كانت الجملة الأولى في رواية الكفاح الفلسطيني حين تسطرها النساء، هي التي خرجت من حيفا طفلة في نكبة 1948 لا تحمل في جيبها سوى فزعة أمها ودمعة أبيها، لتجد نفسها في مخيم صيدا تصوغ من الخيام شرفات حرّة، ومن صفائح الزينكو ميادين للبقاء، ولأن المخيم لا ينجب إلا المقاتلين، كانت زكية أولى الفتيات اللواتي رددن أن الوطن لا يُحرر بالنواح، بل بالرصاص، وأن الأمومة ليست نقيضاً للفداء بل طريقه، فالتحقت بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونفذت أولى عملياتها ضد الاحتلال الصهيوني عام 1968، منذ اللحظة الأولى كانت تعرف أن جسدها سيتحول إلى ساحة معركة، وأن أنوثتها لن تكون إلا قنبلة موقوتة في وجه العدو، فكانت عمليتها الأبرز حين دخلت سيركاً صهيونيا في مدينة حيفا تحمل بطيخة مجوفة بداخلها عبوة ناسفة، ومعطفاً محشوّاً بالديناميت، هناك، وسط الضجيج والفرح المصطنع، فجرت كل شيء، انفجر الصمت العربي، وانفجر جدار الصدمة، وقالت فلسطين ها أنا أنجب امرأة تهزم دولة، امرأة تزرع الموت في قلب المحتل وتغرس الحياة في وجدان المنفى..
لم تتوقف زكية عند بطولة واحدة، بل توالت عملياتها، سبع عمليات كاملة، كل منها كانت كأنها نشيد وطني يُغنى في الخفاء، إلى أن وقعت في الأسر، وكانت في شهرها الخامس، وبدلاً من أن ترفع الراية، رفعت الرأس، دخلت الزنزانة بطفلة تنمو في رحمها، وخرجت منها بوطن كامل، كانت أول فلسطينية تنجب في السجن، أنجبت ناديا داخل زنزانة انفرادية بلا طبيب ولا سرير، كانت تصرخ وحدها، تصارع وحدها، تقاوم وحدها، وتلد الحياة في حضن الموت، لم يمنحها الكيان الصهيوني شفقة، لم يعطها لحظة دفء، لكنها كانت تعرف أن ما تحمله في بطنها ليس مجرد جنين، بل استمرار الثورة..
استمر حبها لفلسطين كما استمر نبض ناديا، حكموا عليها بـ12 مؤبداً، وبقيت في السجن 15 عاماً، ثم خرجت في صفقة تبادل، إلى منفى جديد، إلى الجزائر، لكنها كانت تعرف أن المنفى لا يعني الهزيمة، بل بداية معركة من نوع آخر، صارت تمشي هناك وتحمل فلسطين في كل حديث، في كل نظرة، في كل وجع، وكانت كأنها سفيرة لجراحنا، لا تشكو، بل تروي، لا تئن، بل تصنع من الجرح طريقاً، رحلت زكية في 2014، جسدها مات، لكن اسمها صار نشيداً يتردد، صورة ترفع، قصة تُروى لكل بنت في المخيم تحلم أن تصير زكية أخرى، لكل أم تعلّم أبناءها أن المرأة الفلسطينية لا تعرف الضعف..
زكية شموط لم تكن فقط مقاتلة، بل كانت رواية تامة، كانت الأرض حين تكون أنثى، وكانت الطلقة حين تخرج من رحم امرأة، وكانت الزنزانة حين تتحول إلى مشفى، وكانت النكبة حين تلد انتصاراً، ولأن زكية لم تكن وحدها، بل كانت طليعة لجيش من النساء الفلسطينيات، فإن قصتها لا تموت، بل تنجب كل يوم قصة جديدة، في جنين، في غزّة، في نابلس، في الخليل، زكية لم تغب، بل توزعت على أسماء النساء اللواتي يقاومن على الحواجز، في السجون، تحت الأنقاض، في جنازات الأطفال، في قاعات الجامعات، وفي صمت الأمهات، زكية شموط لم تمت، لأنها ببساطة لم تكن حياة، بل كانت فلسطين نفسها.