رسالـة إلى خــارج فلسطـين

بقلم: د.أحمد لطفي شاهين

يقول محمود درويش في قصيدة طويلة.. (وأنت تعدّ فطورك.. فكّر بغيرك)

وأنا أقول لك وأنت تعيش خارج غزة تذكر وتخيل أحوالنا ومعاناتنا.. وأنت تعيش الآن في بيتك تستيقظ وقتما تريد تشغل ماكينة القهوة أو (البولر ) لتصنع كوب قهوة أو نسكافيه... تسخن خبزة على مايكروويف أو توست دون أي عناء ولا غبار ولا دخان .. هل سمعت بمصطلح (الشُحبار) ؟؟

إنه السواد الناتج عن النار والذي يصبغ الاواني من الخارج باللون الأسود وإذا مسكته تحتاج إلى غسله بصعوبة وتتعامل مع الوعاء بحذر كأنه قنبلة حتى لا تتسخ ملابسك التي لا تملك غيرها بعد فقدان بيتك وخروجك بملابسك فقط.. ربما بعضكم ينزعج من صوت المنبه عندنا يوقظه ويصنع قهوته بهدوء.. تذكروا أننا هنا نستيقظ من صوت القصف هذا إذا استطعنا ان ننام أصلا ولقد نسينا طعم القهوة لأننا منذ شهور لم نتذوقها كما نسينا طعم السكر والخبز واللحوم والأسماك والبيض والأجبان والفواكه والخضروات منذ شهور ..
أنا لا أعلم كيف نعيش أصلا.. وكيف بقينا على قيد الحياة حتى اليوم .. نحن في قطاع غزة لا نعيش نحن ننجو فقط .. لقد مرّ الموت بنا كثيرا ولازلنا نتنفس .. إن طعام معظم الناس هنا حاليا هو العدس والمعلبات التي أعتقد أنها ليست مخصصة للاستخدام البشري أصلا .. لكننا مضطرين للصبر والتأقلم مع اسوأ الظروف، معظمنا يعاني من أوجاع في المعدة وفقر دم ودوخة وعدم توازن وغثيان.. لكننا نحاول ان نصمد لأننا كما قال محمود درويش “نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”.
نحاول أن نعيش وان نصمد ولا خيارات أمامنا إلا الصبر والانتظار واحتساب الأجر من الله. وكثير من الناس في جنازات الشهداء يقولوا هنيئا لهم عرفوا مصيرهم أما نحن الذين بقينا أحياء فإن مصيرنا مجهول لكن ما يجعلنا نطمئن هو أن كل شيء بيد الله وعلم الله.. لقد صعقت اليوم من ابني الصغير وهو يسألني عن شاشة التلفاز ما هذا الشيء المستطيل على الجدار؟
 نعم فأنا نسيت ان أقول لكم أننا بدون كهرباء منذ بداية هذه الحرب الملعونة ونتدبر شحن الهواتف بالأجر عند من يمتلك طاقة شمسية .. ونمضي ليلنا في ظلام دامس وكل ليلة نرجو من الله ان لا يحصل قصف أثناء الليل لأن قصف الليل مرعب وفي الصباح نكتشف مجزرة وقد تصعد فوق سطح بيتك لتتفقده فتكتشف ان جثة جارك فوق السطح وتخيل ان تصعد زوجتك أو ابنتك وترى جثة مقطعة وتخيل حجم الصراخ الذي قد تسمعه من هول المشهد..
هل تتخيلون حجم معاناتنا التي تبدأ منذ ان تتفتح أضواء النهار على البحث عن حطب لإشعال النار لعلنا نشرب كأس ماء دافئ أو شاي مر أو نطبخ عدس للفطور من أجل الاطفال الذين يعانوا من سوء التغذية وفقر الدم والذين يموتون جوعا فعلا وليس استعطافا..
هل جربت ان تفطر عدس؟ تخيل ان ابنك مريض في مستشفى خاص ويرفض الاكل وانت تراه يموت أمامك وتحاول ان ترضيه وتجلب له كل ما يفتح نفسه من ألعاب وشوكولاته وشاشة تلفاز ويرفض أن يأكل.. ما هو شعورك؟
هذا الشعور يعيشه كل الآباء والامهات في قطاع غزة كل يوم مع فارق أننا نحاول اقناع الطفل أن يأكل العدس الذي لا يوجد عليه بصل ولا ملح ولا كمون ولا أي شيء .. دون اغراءات كمالية.. مجرد عدس وماء بطعم دخان النار لأن الملح أيضا مفقود في قطاع غزة .. لكن لابد ان يأكل طفلك حتى يعيش لعله ينجو من قذائف وصواريخ الاحتلال ..
وتستمر معاناة الناس كل يوم في البحث عن ماء للشرب أو للاستخدام وقد تمشي مسافة كيلومترات للحصول على ماء من خلال طابور ليس له علاقة بالنظام .. ونفس الأمر طوابير شراء الخبز وطوابير استلام الطحين وكل حياتنا طوابير فوضوية ولابد خلال كل طابور ان يموت أحدهم اختناقا أو قهرا من حال الذل الذي أوصلونا إليه، هل تستطيع أن تعيش لعدّة أيام بلا استحمام ؟ إذا كان الرجل يستطيع فهل يوجد على وجه الأرض امرأة أو بنت يمكنها الاستغناء عن النظافة الشخصية والاستحمام؟
هل تعلم أن الدخول الى المراحيض هنا عبارة عن طوابير أيضا؟ هل فهمتم الآن سبب انتشار الأمراض الجلدية ولماذا تضطر فتاة أو أم الى حلاقة شعرها درجة صفر ؟ تستغني عن أحد معايير الجمال والانوثة لأنها تعاني من تنظيف شعرها وتخاف من القمل.. هل تشعر بوجعها؟ ان اكثر ما يقتل الانسان هو الشعور بالحسرة والخذلان واليأس وفقدان الأمل ..
ولولا التعلق برحمة الله لما استمر صمودنا الى الآن.. وأنا لا أعلم لماذا أكتب هذا الكلام لكنه ربما هو انصياع لكلمات غسان كنفاني عندما قال للموتى داخل الخزان في روايته الشهيرة: لماذا لم تطرقوا جدار الخزان؟ وإنني أحاول دائما ان أطرق جدار الصمت لعل كلماتي تصل الى قلوبكم وضمائركم وأسماعكم ..

وأرجو أن تلامس نخوتكم كما لامست نخوة المعتصم ذات يوم فأمر بتحريك جيش لأجل إمراة مسلمة

آه نسيت أنه مات المعتصم
ومات الفاروق قبله
فهل ماتت المروءة والنخوة والعدالة...؟؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025
العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025
العدد 19816

العدد 19816

الإثنين 07 جويلية 2025