احتجـاز الجثامـين..

عندما يبلغ الاحتلال ذروة الانحطاط الأخلاقي

بقلم: وسام زغبر

في ركن مظلم من تاريخ البشرية، هناك ما يدعو للخجل أكثر من القتل: أن تحتجز جثة القتيل. وفي هذا، يتفرد الاحتلال الصهيوني، ككيان استعماري عنصري، بممارسة لم يسجّل لها التاريخ شبيهاً في العصر الحديث، حيث يواصل احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، سواء من المدنيين أو الأسرى، في مقابر الأرقام أو ثلاجات الموتى، وكأن الموت لا يكفي.

في كل بقاع العالم، تُسلّم جثامين القتلى إلى ذويهم احتراماً للإنسانية أولًا، ولقوانين الحرب والاتفاقيات الدولية ثانيًا، إلّا في فلسطين، حيث تتحول الجثة إلى ورقة ضغط، أو ورقة مساومة سياسية، أو مجرد أداة لتعميق الجرح المفتوح في جسد عائلة الشهيد.
وفقاً لتقارير الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، فإن الاحتلال يحتجز حتى جويلية 2025:

-  146 جثمانًا في “مقابر الأرقام” وهي مدافن سرية تحتجز فيها الجثامين بأرقام بدل الأسماء.
-  36 شهيدًا محتجزًا في ثلاجات الاحتلال منذ أكتوبر 2015 وحتى الآن، بينهم أطفال ونساء.
-  أكثر من 450 شهيدًا محتجَزًا منذ عام 1967 حتى اليوم، لم يتم الكشف عن مصيرهم أو أماكن دفنهم.
بين هؤلاء، ما لا يقل عن 20 أسيرًا استشهدوا داخل سجون الاحتلال، لا تزال جثامينهم محتجزة حتى اللحظة، في خرق فاضح لكل القوانين الدولية.
وفي قطاع غزّة، تزايدت هذه الجريمة بشكل ممنهج منذ بدء حرب الإبادة في أكتوبر 2023. حيث أشارت وزارة الصحة الفلسطينية مؤخرًا إلى أن مئات الشهداء لا تزال جثامينهم تحت الأنقاض، في ظل استمرار القصف ومنع فرق الإسعاف من الوصول إليهم، فيما يُقدّر عدد الجثامين التي سحبتها قوات الاحتلال من ميادين القتال أو بعد تنفيذ الإعدامات الميدانية بنحو 200 جثمان، يجري احتجازها دون إعلان رسمي.
ومما يفاقم الجريمة، أن احتجاز الجثامين لا يقتصر على الكبار، بل يشمل أيضًا أطفالًا شهداء، لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون. تُسلب العائلات حق الوداع، وحق الحداد، وحتى حق البكاء على قبر!
في كلّ هذا، يبدو جلياً أن الاحتلال لا يخوض صراعاً على الأرض فقط، بل على الذاكرة أيضاً. فالجنازة في فلسطين ليست مجرد طقس ديني، بل فعل مقاومة، ومشهد وطني تُرفع فيه الكوفية والعلم، وتهتف فيه الحناجر ضد الجلاد.
ولعل السؤال الجوهري: ما الذي يخشاه الاحتلال من جثمان بارد؟

-  الجواب واضح: إنه يخشى من عدالة القضية، ومن رمزية الشهيد، ومن تحوّل جنازته إلى شرارة تُنير درب الحرية. لذلك، هو لا يكتفي بقتله، بل يسعى لمصادرة ما تبقّى منه، حتى الحلم الأخير في قبر صغير على تراب الوطن.
في النهاية، لا يمكن لأي دولة تزعم احترامها للقانون الدولي أن تواصل صمتها على هذه الجريمة. احتجاز جثامين الشهداء ليس فقط انتهاكًا فاضحًا لحقوق الإنسان، بل هو تعبير عن وحشية نظام سياسي استعماري، لا يعترف بالحياة ولا يحترم الموت. ولأننا نؤمن أن العدالة ليست فقط للحي، بل أيضًا للميت، فإن معركتنا لانتزاع جثامين الشهداء من سجون الاحتلال لا تقل قدسية عن معركة الحرية نفسها.

- عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025
العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025
العدد 19855

العدد 19855

الخميس 21 أوث 2025
العدد 19854

العدد 19854

الأربعاء 20 أوث 2025