قصـة:

«كـانَ يُـشْبِهـُـهُ تمامــاً»

الأديب أحمد عفيفي مضر

كعادته..راح يشاكسه، يخطف سلسلة مفاتيحه، ثم يؤرجها أمام وجهه، ثم يميل فوق رأسه مشوشا: ( اللي يرجع أول يأخذها)..كانت سلسلة مطوّسة منتهية بإطار دائري بداخله صورة -كريمه- خطيبة فيّاض.
كانوا قد فرغوا من قراءة الفاتحة، واتجهوا إلى القارب المطاطي يقفزون واحداً تلو الآخر.. وكانت النجوم مختبئة.. وحبّات المطر تنهمر غليظة ثقيلة تصفع خوذاتهم.. وكانت الريح تتلوى وتصفّر.
*كانت المهمة: تدمير ثلاثة أهداف قوّية للعدّو..وكان القارب يشقّ المياه الغامقة المهتاجة بصعوبة..كان الصمت سيداً للموقف.. وكانت الأوامر أن ينتظر الرقيب -عبد المعبود- بجوار القارب، ويتسلق الستة الآخرون، كل اثنين لهدف..
كانت الدُشمة الكبيرة الحصينة فوق الساتر المنيع من نصيبه، فيما تسلق -فيّاض- متقدما زميله إلى برج المراقبة..
*تذكّر مشاكستة لفيّاض وسلسلة المفاتيح وصورة كريمة.. كان يغتبط بشدّة حين يصطحبه فياض أثناء زيارته لـ-كريمة-، وكانت كريمة تسعد لرؤيته وتقول: ( أنا بحبك وربنا العالم عشان بتحب فيّاض)
*حين أصبح قاب قوسين من بلوغ قمة الساتر المهول، اختلس نظرة لليسار ، شاهد فيّاض يقفز كصقرٍ فوق جندي المراقبة، ثم يغرز شيئا كان بيده في رقبة الجندي، ثم يهرع داخل الدشمة الحصينة..
*تجاوز المسافة زاحفا إلى الهدف، وحين انتصب واقفا، شاهد الدشمة خالية، كان يتوّسطها مدفع غريب، تحوطه عدة صناديق معدنية ثقيلة، وكانت خوذاتُ خمسٌ معلقة على الشكائر الرملية التي تحاوط. .الدشمة..لوهلة بحسبه كميناً، أحسّ أنه فقد الشعور بالمكان والزمان..حتى أفاق على صوت هرج ومرج منبعثا من ملجأٍ أسفل الدشمة -لم يدر أيّة قوة دفعته وزميله لدفع ما يحملان في باطن المدفع وأسفل الصناديق المعدنية وأسفل الباب الصغير المنغلق على الأصوات الصاخبة.. وكانت الريح تعوي بشدّة.
*كان القارب قد تخطى منتصف المسافة بين شطّي القناة -عائداً- قبل أن يشتعل الجحيم ويدوّى في ثلاث بقاع أعلى الساتر المهول، وكانت قلوبهم تزغرد من الفرح، وفيّاض يجدف ويقهقه بهستيرية..كانت الطلقات العشوائية تنهمر خلفهم، وحبًات المطر الغليظة لا تزال تسقط.
*حين باتَ القارب على مسافة خطوات من الشاطئ. لم يشعروا بماذا ارتطموا، كان انفجارا هائلا ببقعة الارتطام، وحين أفاق، وجد نفسه فوق رمالٍ الشاطئ المبلّلةٍ..وحين استعاد الرؤية..شاهد الرقيب -عبد المعبود-جاثماً فوق فيّاض محاولا كتم نافورتين من الدماء تتدفقان من كتفه وصدره..راح يلطم وجهه حتى خرّ منكفئاً يصفع الرمال بجبهته..وكان فيّاض ينظر إليه باسما واهناً..وكانت الريح تصفّر في هوس شديد.
*التهمتْ عجلات القطار قضبانَها، وهو يتحسسُ الإطار الذي يحوى صورة كريمة..كان الطنينُ يتكاثرُ في أذنيه حتى لاحت -كريمة-..كانت واقفة أسفل شجرة الجوافة العتيقة تُظلِّل المكان بشَعْرِها الغزير..حين التقاها، أطالَ النظر في عينيها، رأى فيهما غلاماً ضاحكاً ينمو ويرقص وينمو..كان يشبهه تماماً.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19449

العدد 19449

الجمعة 19 أفريل 2024
العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024