في ملتقى “الترجمة الأدبية والذكاء الاصطناعي”.. باحثون:

تعزيـز تكويـن المترجمـين في التعامل النقدي.. ضـرورة قصـوى

فاطمة الوحش

احتضنت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية لولاية جيجل، فعاليات الملتقى الوطني الثاني حول “الترجمة الأدبية والذكاء الاصطناعي”، الذي نظمه قسم اللّغة والأدب العربي لجامعة جيجل، بمشاركة نخبة من الباحثين والمترجمين من جامعات ومؤسسات أكاديمية مختلفة، ناقشوا خلالها جملة من القضايا الراهنة التي تلامس واقع الترجمة في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، وسبل التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي في نقل المعنى والسياق الثقافي.

قدّم الدكتور علي ملاحي مداخلة موسومة بـ “في سرديات أبي العيد دودو مقاربة وجدانية - لحن الروح وجاذبية المدلول”، مزاوجا فيها بين الطابع الأكاديمي والبُعد الشخصي، من خلال استحضار علاقته بالمترجم والأديب الراحل أبي العيد دودو، في لقاءات جمعتهما سنة 2003 بالجامعة المركزية بالجزائر العاصمة.
انطلاقا من هذه العلاقة، أبرز ملاحي كيف أن أدوات الذكاء الاصطناعي، رغم بعدها الآلي، قادرة على تقديم معطيات دقيقة وموثوقة حول مسيرة شخصية ثقافية مثل دودو، حتى لمن عايشه عن قرب. لكنه في الوقت ذاته حذّر من الإفراط في الثقة بهذه الأدوات، مؤكدا أنها تظل وسيلة تقنية تتطلب فحصًا بشريًا دقيقًا، خصوصًا عند التعامل مع النصوص الأدبية والرمزية التي ترتبط بشبكة من الدلالات الثقافية والمعرفية. وخلص إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون داعما ومساعدا، لكنه لا يغني عن الحس النقدي والخبرة التأويلية للمترجم أو الباحث.
أما الأستاذ الدكتور اليامين بن تومي، فقد قدّم قراءة موسعة لرواية “الحمار الذهبي” من خلال ترجمة أبي العيد دودو، مركزا على تأثيثها العمراني التاريخي والجمالي. وانطلق في تحليله من رؤية سردية نقدية، راصدا حضور البعد المعماري والتاريخي في هذه الرواية القديمة، وكيف حافظ دودو على هذا التوازن بين المعنى والمدلول عبر اللّغة العربية دون الإخلال بالهوّية الأصلية للنص. واعتبر بن تومي أن ترجمة “الحمار الذهبي” ليست مجرد جهد لغوي، بل هي ممارسة ثقافية تضع الترجمة في صميم مشروع فكري يقوم على استعادة النصوص الكلاسيكية بروح حداثية.
في حين خصّت الدكتورة سعيدة حمداوي مداخلتها، بتحليل مقدّمات أبي العيد دودو في الترجمة الأدبية والنقدية، معتبرة إياها خطابا تأويليا مستقلا يتيح قراءة موقف المترجم من النص الأصلي. وقد استعرضت حمداوي عددًا من النماذج، منها رواية “القط والفأر” لغونتر غراس، و«الحمار الذهبي” لأبوليوس، ومسرحيات لبوشكين وتولستوي ولوركا وبريخت، فضلًا عن ترجمات فكرية وشعرية كـ«مختارات غوته”، و«أصل العمل الفني” لهايدغر، و«ما هي العولمة؟” لأولريش بك. ورأت أن مقدمات دودو تشكل مادة نقدية لفهم موقع المترجم بين النص والمؤلّف، وتكشف وعيه بدور الترجمة كجسر ثقافي لا محايد.
من جهتها، ناقشت الباحثة خيرة سحابة، التحوّلات التي طرأت على مفهوم الترجمة نتيجة إدماج تقنيات الترجمة الآلية العصبية، وطرحت إشكالية جوهرية تتعلق بإعادة تعريف دور “المترجم” في العصر الرقمي، حيث لم يعد الطرف الوحيد في إنتاج المعنى، بل أصبح المستخدمون شركاء في صياغة النص من خلال تدخلاتهم وتعليقاتهم وتصحيحاتهم. كما تناولت أثر الوسائط السيميائية كالرموز التعبيرية والميمات في توجيه المعنى وإعادة تأطيره، داعية إلى تبنّي مقاربة هجينة للترجمة، لا تكتفي بالمستوى اللّغوي بل تراعي الأبعاد التفاعلية والمعرفية.
أما الأستاذ عمار قواسمية، فشارك بتجربته الخاصة في ترجمة كتاب عن الموروث الثقافي الجزائري دوّنه رحالة إنجليزي سنة 1920، ضمن مداخلة بعنوان “مناقب الذكاء الاصطناعي ومثالبه في الترجمة المتخصصة”. شرح فيها كيف استعان بأدوات الذكاء الاصطناعي لترجمة بعض المقاطع التقنية والتاريخية، مؤكدًا أنها ساعدته على بلوغ بدائل لغوية بسرعة، لكنها أخفقت في نقل الخصوصيات الثقافية والدلالات الدقيقة. وقد عرض قواسمية مجموعة من الأخطاء التي وقع فيها الذكاء الاصطناعي، لا سيما في ترجمة مصطلحات ذات طابع محلي، مما أثار تفاعل الحضور، وأكد على أهمية وعي المترجم بثقافة النص.
من جانب آخر، تطرّق الأستاذ الدكتور عبد الحميد بورايو إلى ترجمة أبي العيد دودو للحكايات الشعبية الألمانية، معتبرًا أن القيمة الأدبية للعمل السردي في هذه الترجمات تكمن في قدرة دودو على تكييف النص مع البيئة العربية دون التفريط في نكهته الأصلية. واعتبر بورايو أن هذه الترجمات ليست فقط جهدًا لغويًا، بل هي “ياقات سردية” تزيّن الذاكرة الشعبية وتعيد تأهيلها في قالب حديث، مستعرضًا بعض النماذج التي تظهر وعي دودو ببنية الحكاية ومقاصدها التربوية والجمالية.
وواصل الأستاذ الدكتور أحمد خياط النقاش من زاوية أخرى، متناولًا الترجمة عند أبي العيد دودو بوصفها “استدعاءً للمعنى الأصل وتأصيلًا له في اللغة العربية”. وأوضح أن هذا المسار لا يقوم على النقل الحرفي بل على فهم عميق لبنية المعنى في لغته الأم، وإعادة بنائه في اللغة الهدف بما يحفظ التوازن بين الأمانة النصية والإبداع اللغوي. وأكد خياط أن دودو كان يشتغل على النصوص المترجمة بوصفه مؤلفًا ثانيًا، يعمل على تأسيس حضور عربي معاصر للنصوص العالمية.
من جانبه، ركز الباحث محمد الصالح خرفي في مداخلته على “أثر الفعل الترجمي عند دودو”، من خلال دراسة تحليلية لكتاب “قسنطينة أيام أحمد باي” الذي نقله دودو عن الألمانية. وحلل خرفي تمثيلات صورة الجزائري في هذا النص، باعتباره أنموذجًا لعلاقة الآخر بالمجتمع المحلي، مبرزا كيف أعاد دودو صياغة هذه الصورة في ترجمته بما يعزز الهوية دون طمس الآخر. واعتبر أن الترجمة هنا لم تكن عملية لغوية فحسب، بل فعلا ثقافيا يروم إعادة توزيع المواقع في خطاب ما بعد الاستعمار.
وقد شهد الملتقى أيضًا مداخلات نوعية أثْرت النقاش من زوايا متعددة، من بينها مداخلة الأستاذة الدكتورة وسيلة بوسيس التي تناولت “من الذكاء الاصطناعي إلى العلوم المعرفية: زاوية نظر فرانسيسكو فاريلا غارسيا”، حيث قدمت ترجمة للنص الأصلي وتعليقات تحليلية تسلط الضوء على تداخل العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي في فهم فعل الترجمة.
كما قدّم الدكتور الفريد عوف مداخلة حول “أدب الرحلة في ترجمات أبي العيد دودو”، استعرض فيها كيف نقل دودو تجارب الرحالة الأجانب إلى العربية بمنظور ثقافي يعيد بناء صورة الذات والآخر. من جهتها، ناقشت الأستاذة خولة بوالزرايب موضوع “الحوار التقني بين الجزائر والعالم من خلال الجهود المقارنة لأبي العيد دودو”، مركزة على سعيه الدائم إلى ربط الترجمة بالسياقات العلمية والتقنية الحديثة. أما الأستاذ الدكتور كمال بطوش، فقد تطرق في مداخلته إلى “تأثيرات الذكاء الاصطناعي على دقة الترجمة وسياقاتها الثقافية: التحدّيات والفرص”، مستعرضا تحليلات معمقة لأثر هذه الأدوات في حفظ أو إضعاف البعد الثقافي للنصوص المنقولة.
في ختام أشغال الملتقى، أجمع المشاركون على جملة من التوصيات، منها: ضرورة تعزيز تكوين المترجمين في التعامل النقدي مع أدوات الذكاء الاصطناعي، دون الوقوع في التبعية التقنية، وتشجيع البحوث البينية التي تجمع بين اللسانيات وعلوم الحاسوب والدراسات الثقافية، فضلا عن الدعوة إلى إنشاء قواعد بيانات جزائرية خاصّة بالمصطلحات المتخصّصة، تسهم في تطوير الترجمة بجميع حقولها، وتُكرس لمقاربة تتوازن فيها التقنية مع الحس الإنساني.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025
العدد 19787

العدد 19787

الأحد 01 جوان 2025
العدد 19786

العدد 19786

السبت 31 ماي 2025
العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025