(لا برتقال في ...جمهورية البرتقال)

بقلم :يوسف عبود جويعد ناقد عراقي

تستندُ المفردة الشعرية،في قصائد الشاعر ابراهيم الخياط التي ضمتها مجموعته الشعرية (جمهورية البرتقال) وهي من منشورات اتحاد،الادباء في العراق بالتعاون مع دار الشؤون الثقافية العامة لعام 2007، على عمق الصورة، الايحائية ذات المدلولات والحسية والرمزية،التي تستمد من التراث الحضاري لهذا البلد ومن اوجاع القاطنين فيه، ومن الانحرافات الكبيرة في مسيرة النظام الحياتي، وكأنه يترقب هذا الانحراف الخطير محاولاً ردم هذه الثغرات التي انبثقت من كل زوايا الحياة حتى باتت تحتاج إلى جهد ابداعي كبير، لرصد تلك الظواهر ومواجهتها بروح شعرية يجب فيها ان تكون بنية القصيدة أقوى وأمضى وأشد تأثيراً، وهي تتحدى هذه الموجة، كما ان قصائده ترصد حركة الانسان في هذا البلد، وتعكس معاناته ولوعته وفقدانه لحقه في ان يعيش بأمان وسلام وطمأنينة، وحب ووئام، وكذلك نجد في هذه القصائد مسحة من الاسى والحزن والندم وهي يطل على مدينة البرتقال التي كانت تزهو بربيع الحياة، حيث الثمر الريان، والخضرة، وروح الالفة، والحب والعاطفة، وكذلك تتصدى تلك القصائد الى واقع الحياة السياسية بصور ودلالات وايحائيات واستعارات، تعطي رؤيا واضحة بأن الشاعر متابع نهم لهذا الواقع، وأنه يرصد بعين الشاعر الفاحصة هذه الاحداث ولا يقف امامها مقيد الفكر والقلم والحس الشعري، بل انبرى ليقدم من مخزونه الشعري، وعالمه المفعم بروح المتابعة والتحدي، فكانت قصائده تدور في كل الامكنة والأزمنة، وتعكس زوايا الحياة من كل جوانبها التي تعددت في ثيمتها، ورسالتها الانسانية، وخطابها الثقافي، وخطابها الادبي، وفيها انساق مضمرة لكل هذه الاوجه، تحتاج الى تأن وروية للدخول الى عالمها، وهو يشدنا لغور هذا البناء المتماسك في وحدة موضوع كل قصيدة من خلال المدخل الذي يؤكد عمق التجربة، اوله سلام الشعر.
ثم تأتي قصيدته (كاسب كار) خطوة اولى للولوج لخوض غمار عالم الشاعر،الذي يشبه البحر العميق لاستخراج مكنوناته الحسية والشعرية، وان هذا التعاطف الحسي نجده في هذه القصيدة، التي تطرح معاناة هذا الكاسب وبلوغه الاربعين فهو يعكس حالة هذا الكاسب، وكذلك يعكس رؤية الشاعر في هذه القصيدة بتداخل منسجم ومتناغم، وبإيقاع كأنه أنين ناي حزين:
انه
قاب قتلتين أو أدنى
فحق عليه القول
بعد ان فرهت احلامه
ونحت به عن جزيل افتقاره
أو قل
نحت به إلى سدرة الترف القوراء
ولا تفوتني الاشارة الى أن الشاعر استطاع أن يوظف مكنونه الفكري والثقافي، وحتى الاستفادة من الموروث الشعبي والحضاري، وقد استطاع ان يجعل من بناء قصيدته خزين ثر من تلك المعلومات التي خبرها من خلال اطلاعه المستمر، وقراءته لكل انواع الثقافات، فقصيدته سالفة الذكر تستلهم اية من القرآن الكريم بتناص شعري متماسك، ويتوغل الشاعر في تناول هذه الشريحة المغبونة من ابناء البلد، والذي كان الفقر سبباً لحرمانه من اشياء كثيرة
فهل يصمت في حوار النبيين؟
هل ـ تراه ـ يخلع سترة المعارف الآبقة؟
هل يدفع غيمة خوفه إلى فسيفساء المنافي؟
وبعد ذلك
    •    أو قبل ذلك -
    •    هل لا يقتلونه..

ونبحر حيث يأخذ مداه في مخيلة الشاعر،وعندما تتوقد القصيدة متوهجة من ضياء الذكريات، ومن الخلوة، ومن الوحدة، ومن وحشة النفس، ومن الشوق الى افق الماضي، هي الذاكرة تتداعي بحس عاطفي متقد، نجد ذلك في قصيدة (الضجة الصديقة)
ترى ـ أمن الضجة انتهائي؟
فعند التقاء المساءات
صامتاً أفردت بعضي
ورتقت بعضي بالجلنار
أحرقت دمعي
(وهل كان دمعي غير ماء ؟)
أطفأت روحي
ثم رميت عقبها المقحم خلف الباب
وهكذا نتقدم بخطى وئيدة حيث يجتاحنا هذا الحس الشعري العميق نحو عالمه،ليشدنا، ويهيمن على حواسنا لأن قصائد الشاعر تتوغل في عمق الازمة، وتتوغل في حياتنا، تناشد فينا العاطفة، التي خمدت وسط هذا الضجيج، وننتقل الى واحة الحب الصافي عبر تداعيات شعرية شحذ فيها الشاعر ادوات قصيدته،حيث ينهل من الذكريات، وبتناص من القرآن الكريم (سورة يوسف) عندما تراود زليخة النبي عن نفسه، وتقد قميصه، وكذلك يحلق فينا بمدينة البرتقال (بعقوبة) والانهار ليصنع من كل ذلك قصيدته التي نرى فيها ان الحبيبة تراوده عن نفسه، ولكن في بحر الذكريات، وعمق الماضي الجميل نجد ذلك في قصيدة ( يا امرأة الوجع الحلو)

تقد قميصي ـ كل ليلة ـ من الجهات اربعها
ولا أقول: رب السجن أحب الي
لا أقول: رب السجن أ ....
فيا نهيرات بلادي الظامئة
بالغصى الوثقى أتيت
وبالغصات اعاود
وفي قصيدة (جمهورية البرتقال) التي حملت المجموعة الشعرية اسمها، نكون في جمهورية البرتقال، ولكن بلا برتقال، بلا حياة، بلا روح، جف النهر فيها، ويبست الاشجار، وصوت الشاعر يسحبنا الى حيث هذا الالم
ومثل كل مرة
كانت المدينة تسورني بالتماعاتها
وتأمرني بالبكاء
    •    وأنا المجبول دمعاً -
أذن كيف اوهمونا ان للمدن ذاكرة
يامدينة الباعة الصغار
أخاف على زجاجة روحي
أربعون صيفاً
ولم تهشمها دورة المعارك
ولان مدينة البرتقال مهد الذكريات، وأنها منقوشة في ذاكرته كالنقش على الحجر، ولأنها مدينة الثمار والحلم، والجب، والعطاء، يرى الشاعر في هذه المدينة كل اركان الدنيا،ويتأسى ويهيم وجداً فيها،فلتهب قصيدة (حداء الغرانيق ) شعراً ووجداً، وهياماً، ولوعة،
فترنحي
وارحلي في تجاويفي
خلي روحك من ليل البساتين
قبل ان يغر بك
القمر المتعرش
على شاهدة
النهار
وحين تمور ذاكرتي
فأنت من انتظر!!
أن الوطن اضحى مدماً للشباب، اذ انه غرق في الحروب حد الكارثة، فلم تعد الحياة كما كنا نراها، عندما كان السلم والسلام والأمن فضاء يغطي أرواحنا، واليوم لا شيء في الذاكرة سوى الحروب التي امتدت لعشرين عاماً، نجد ذلك في قصيدة (مدمي الشباب) الذي تشكل بنية هذه القصيدة بوح لهواجس الشاعر، بل هواجسنا نحن معه
عشرون عاماً وأنا أبكي
عشرون عاماً وانا أغزل رئة ثالثة
فالاولى للقطران
والثانية للشهيق
وهذي الشفيقة للبارود الجميل
عشرون عاماً، حتى نسيت سلم روحي
أنط من حرب لاخرى
وهكذا فأن ازدحامات الحروب في هذا الوطن،صار يعشوشب في خلايا نفوسنا، فاختلطت العاطفة بالبارود، وبرائحة الارض المحترقة من الصواعق، وصار الموت قوافل، حتى ان نجف واحد لايكفي لاحتواء هذا الازدحام من الموتى،ليعلن الشاعر صرخته الكبيرة مندداً وشاجباً ورافضاً هذا الموات المتوارث نجد ذلك في قصيدة ( واحدة لاتكفي )
•    أيوب ـ
هي القيامة قد قامت
وفيها واحدة لا تكفي
فكم نجف تحتاجين بلادي
في ازدحامات الحروب
وفي قصيدة (سؤال بسيط جداً) نكون مع تجربة غريبة، وقل نظيرها، ونوع من انواع المغامرة، اذ ان الشاعر يدرج وبشكل مباشر واحد واربعون وزارة وهيأة ودائرة حكومية مرقمة ومتسلسلة، الا انه جعلها قصيدة ذات مدلول عميق، واستطاع ان يحتوي هذه المباشرة بحس شعري، وهو بمثابة نهاية القصيدة، والضربة المفاجأة
فضلاً عن دزينة من
وزراء لاحقائب لهم، ولا خرائط !!
مالجدوى ؟
 اذا كان بيتي السعيد
منطقة منزوعة القوت،
وحواليه حديقة تضوع من الديون
وفي قصيدة (تروحن) يخال الشاعرة الحبيبة في هذا الزمن الصعب وفي قصيدة (نادي الببغاوات) يستعرض لنا الشاعر تداعيات حسية جميلة بين الحلم والببغاء والحبيبة والوطن، في قصيدة (زينب) نكون مع ثيمة ذات منحاً سياسياً، وزينب،مغنية سياسية من فلسطين، تالقت في سبعينات القرن الراحل، ويضعنا وسط الازمة والتكالب على الكراسي، وفي قصيدة (الصامت بالدال) ويعني بها صمود ابناء هذا الوطن ضد الشدائد والازمات والحروب، ويفرد الشاعر قصيدته عن الشهيد في قصيدة (هو الذي راى )، وفي قصيدة (ضيوم) نكون مع الشاعر وقصيدة تستعرض سماؤنا الملبدة بالضيوم وليس الغيوم، وحتى الذكريات التي حوتها هذه القصيدة في متنها النصي، وفي انساقها المضمرة، تؤكد ان الحروب صارت من حياتنا، اذ ان هذه الذكريات لا تستحضر التاريخ وانما الحروب( في ذات حرب) وهي قصيدة تحتاج مساحة كبيرة من التحليل وفي قصيدة (قلبي) يكون الشاعرمع قلبه وتداعياته ( قلبي، اول الكاظمين، ومسح الختام، وفي قصيدة (آه)نكون مع تداعيات الخطيئة، وفي قصيد ( النبي الصامت ) نكون بتناص مع الموروث الحضاري، ونجد عمق المفردة الشعرية في بقية القصائد، هناءة المحابس، افلاطونيا، وكانت المعركة، طواسين، بعقوبة، على حائط حنا السكران، تفعيلة الخذلان، بعيداً حيث انت، وهي قصائد بلغة مشرقة، تقترب كثيراً من قصائد السياب، ونازك الملائكة، والجواهري، وحتى البياتي، وهذا ليست رأي انفرد فيه لوحدي، بل اكده الناقد الكبير فاضل ثامر، عبر كلمته عن قصائد ابراهيم الخياط التي كتبت في ظهر غلاف المجموعة الشعرية، إذ يقول ( ابراهيم الخياط .. شاعر يمتلك صوتاً متميزاً بين اقرانه، شاعر يذكرني بالسياب وبسعدي يوسف، فهو يمتلك ناصية اللغة ويجعلها تتصدر التجربة الشعرية، ولغته تراثية أنيقة قلما يقترب منها شاعر محدث، ربما فعل ذلك السياب، لغة قد تكون جواهرية في نصاعتها واشراقها.)، ان المجموعة الشعرية (جمهورية البرتقال) تمتلك التميز الذي يجعلها في الرفوف الاولى للشعر العربي الحديث.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024