”الـــتراث”..فاعليـــة في حفــظ الذاكـرة وحمايـــة الهويــة الثقافيـــة
كثيرة هي الأمثلة على توظيف الأدباء والمبدعين لمكونات التراث الثقافي في نصوصهم الأدبية..وليس هذا التوظيف مجرد تمرين جمالي أو حنين إلى الماضي، بل هو عمل حيوي من أعمال المقاومة الثقافية. هو فعل إبداعي يؤكد وجود الشعوب، ويمنحها صوتا وهوية، في مواجهة محاولات الطمس والمحو. وفي هذا السياق، يصبح الأدب حارسا لذاكرة الجماعة، وسلاحا ناعما في معركة الاستقلال الروحي والثقافي.
منذ أن بدأت البشرية تسطر حكاياتها، ظل التراث الثقافي نبضًا حيًا يتردد في نصوص الأدب، شاهدا على ماضي الشعوب، ومفتاحًا لفهم حاضرها. في هذا الفضاء الإبداعي، لا تنحصر وظيفة الأدب في الحكي فحسب، بل تتعداها إلى إعادة إحياء الأساطير القديمة، وصياغتها من جديد لتضيء زوايا غامضة من واقع الإنسان المعاصر.
مثلا، ما فتئت التراجيديا الإغريقية، مثل “أوديب ملكًا”، تُستحضر في الأعمال المعاصرة لمساءلة الراهن، كما يُعد الأدب وسيلة فعالة لحفظ المعرفة الثقافية عبر الأجيال، ولنا في ملحمتي هوميروس “الإلياذة” و«الأوديسة” خير مثال، فقد نقلتا الأساطير اليونانية القديمة على مدى قرون.
ومن خلال الأعمال الأدبية، يتعرف القراء على القيم والمعتقدات التي شكلت المجتمعات، كما يظهر لدى النيجيري تشينوا أتشيبي الذي تناول أثر الاستعمار من خلال ثقافة الإيغبو، أو في أعمال غابرييل غارسيا ماركيز التي تعكس عمق التراث اللاتيني، أو لويز إيردريش التي استكشفت تراث شعب التشيبِوا الأصلي.
ويشكل توظيف التراث الثقافي في الأدب الفلسطيني أداة فاعلة للمقاومة، يتجاوز بها الأدب دوره الجمالي ليصبح وسيلة لحماية الذاكرة في وجه محاولات الطمس والاستعمار الثقافي. ويبرز محمود درويش في هذا السياق كأحد أبرز الشعراء الذين أعادوا تشكيل العلاقة بين التراث والحاضر ضمن مشروع شعري حداثي.
انطلق درويش من التراث بوصفه أرضية خصبة للتجديد، فاستحضر عناصره وصهرها ضمن بنية شعرية معاصرة تحمل فرادة ذاتية وسياقا إنسانيا واسعا. ولم يقف عند حدود النقل أو الاستنساخ، بل عبّر عن التراث بطريقة حداثية تنأى عن التقديس أو الذوبان فيه، ليمنحه أبعادًا جديدة تسمح بتعدد التأويل.
ومن خلال هذا التوظيف، استطاع درويش أن يربط بين الماضي والحاضر، مستلهمًا التراث كأداة تعبير عن الهوية الفلسطينية، وكوسيلة فنية لكسر النمطية والانفتاح على عوالم رمزية وشعورية أكثر عمقا، فارتقت قصيدته من الشكل التقليدي إلى نص حداثي نابض، يُعيد للتراث حضوره دون أن يفقد القصيدة معاصرتها وتجديدها.
انعكاس لصورة الإنسان وهويّته
لماذا يبحث الروائي عن شخصيات تراثية لروايته؟ سؤال طرحته دراسة بعنوان “الموقف السوسيولوجي من إشكالية استحضار التراث والتاريخ في الرواية الجزائرية”، للباحثين سعيد عيادي وزهرة بلعيد من جامعة البليدة. وأجاب الباحثان بأن الروائي يخلق حالة من الاشتياق والتشويق عبر ما ينقله من الماضي إلى الحاضر. وكلما كان الروائي قادرا على إعادة تشكيل صورة الماضي التراثية في الحاضر المتفاعل، تمكن من إقامة علاقة فكرية وأدبية وإنسانية مع القارئ، مما يساهم في هيمنته على وجدانه وجذبه نحو مساراته وسياقاته ومنطق الرواية.
وأكد الباحثان أن الهدف من استخدام التراث هو قراءة الحاضر بكل تناقضاته وتشعباته. كما يعمل التراث على خلق مدخل وجداني عاطفي يساعد في تشكيل مقاربة شخصانية تمكّن القارئ من العثور على صورة لهويته الإنسانية، لمواجهة تحديات الحاضر وتعقيداته. فالإنسان المعاصر في حاجة ماسة إلى بناء علاقة إيجابية مع معالم مجتمعه ليتمكن من إيجاد توازنه وانسجامه، بعيدا عن الاغتراب.
ويمكن للكاتب أن يستثمر في التراث ويُوظفه في أعماله الأدبية بعدة طرق، على غرار استلهام الرموز والمفردات الثقافية، واستخدام التراث كأداة للنقد الاجتماعي، وإعادة تفسير التراث بطرق جديدة تتلاءم مع القضايا المعاصرة، والتفاعل مع العادات والتقاليد وإعادة إحيائها في أعماله الأدبية، والاستناد إلى التاريخ والأحداث الكبرى ودمجها ضمن سرد أدبي يعكس تأثير هذه الأحداث على الفرد والمجتمع.
تجربة جزائرية ثريّة
ولعلنا نجد عديد الأمثلة عمّا سبق في التجربة الإبداعية الجزائرية، الممتدة على مدى عقود..تجربة عاشت طويلا تحت وطأة الاستعمار، وواجهت محاولات مستمرة لطمس التراث الثقافي الجزائري وتحويره وتشويهه، وفي ردهم على ذلك، لجأ المبدعون الجزائريون إلى توظيف تراث أمتهم في مختلف أشكال التعبير الفني، معتبرين إياه سبيلا للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية.
ويمكن أن نستشهد بمجموعة من الأدباء الجزائريين الذين وظفوا التراث في أعمالهم الأدبية، والتي تعتبر من أبرز الأعمال في الأدب الجزائري، ومن بينها، نجد رواية “نجمة” لكاتب ياسين، ورواية “إغفاءات حواء” لمحمد ديب، وكذلك روايات عبد الحميد بن هدوقة، وعلى وجه الخصوص رواية “الجازية والدراويش”. ولا ننسى الأديب الطاهر وطار، وتعتبر روايته “اللاز” غنية بكل عناصر التراث الشعبي، وهو ما يعكس الرؤية السياسية المتميزة لها، التي تركز على الثورة الجزائرية. ومع ذلك، تبقى الرواية أيضا تسرد تقاليد ومعامل المكان الثقافية المرتبطة بالثقافة الشعبية، حيث يُمثّل “اللاز” الشعب بكل أساطيره وحكاياته، وانتصاراته وخيباته.
وللشعر الجزائري نصيب في توظيف التراث للتعبير عن القيم الوطنية والدينية، ولنا في شاعر الثورة مفدي زكريا خير مثال، ففي ديوانه “اللهب المقدس”، استخدم الشاعر الرموز الدينية والتاريخية لتجسيد معاني النضال والتضحية، كما أدرج في ديوانه “إلياذة الجزائر” عناصر ملحمية مستوحاة من التراث لتصوير بطولات الشعب الجزائري خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ما يُظهر تأثير التراث العربي في تشكيل ملامح الشعر الجزائري الحديث.
وإذا ما تحدثنا عن المسرح، نجد أن التراث شكّل، ويشكّل، مصدرا مهما للإلهام لدى الكتاب المسرحيين، وفي الأعمال المسرحية، يتم توظيفه كقناع للتعبير عن قضايا الراهن، وتناقضاته، وإشكالاته. وقد أدّت المسرحيات التي تعتمد على التراث دورًا كبيرًا في تسريد هوية المجتمع الجزائري وثقافته، كما أسهمت في نقل التجارب التراثية الشعبية وربطها بالحاضر.
في الختام، نقول إن الأدب يسهم بشكل كبير في الحفاظ على التراث الثقافي وتوثيقه، حيث يعد وسيلة فعالة لنقل العادات، التقاليد، الأساطير، والقصص الشعبية من جيل إلى جيل. ومن خلال الأدب، يتمكن الكاتب من توثيق جوانب الحياة اليومية، والرموز الثقافية، والممارسات الاجتماعية التي قد تتعرض للاندثار مع مرور الوقت. كما توفر الأشكال الأدبية مثل الرواية، الشعر، والمسرح، أداة حية ومرنة لتسجيل اللحظات التاريخية والمعرفية، ما يجعل التراث جزءًا من الذاكرة الثقافية المشتركة.