ذكـرى مميزة بجوهرة العرق الغـربي

هكذا يحتفل في بني عباس بمولد خاتم الأنبياء

دحمان جمال

 تحلّ بنا هذه الأيام ذكرى مولد خير خلق الله وأحبهم إلى النفوس، وأعظم إنسان عرفه تاريخ البشرية، حقق العدل والرحمة في المجتمع الذي عانى الظلم والقهر والاستبداد قبل بعثته – صلى الله عليه وسلم-، وقاد الأمة نحو العلم والتقدم بعد أن عاشت فترات من الجهل والظلمات.التفاصيل في هذا الاستطلاع لـ”الشعب”.

  هذه الذكرى التي يحتفل بها المسلمون قاطبة والجزائريون على وجه الخصوص في مظاهر تختلف من منطقة إلى أخرى، بعضها اختفى كليا أو جزئيا، ومنها ما هو قائم إلى يومنا الحاضر، حيث تعتبر ذكرى المولد النبوي الشريف بدائرة بني عبّاس ذات طابع خاص.
مثلما تنفرد الصحراء بأسرارها التي تضفي عليها سحرا وجمالا، فإنّ أبناء مدينة بني عباس ببشار يوجدون الجمال في كل شيء له علاقة بحياتهم البسيطة في ظاهرها والعميقة في فلسفتها التي أوجدت طقوسا.
 عادات وتقاليد تكسر صمت الصحراء وتساعد على تحمّل قسوة الطبيعة، صمدت لقرون إلى وقتنا هذا ولم تفلح الغزوات التي عرفتها المنطقة قديما ولا الاستعمار الفرنسي  في اقتلاعها من جذورها التي هي وجدان أهالي الصحراء الكبيرة.
 أهم ما يلفت الانتباه من العادات الأصيلة لسكان منطقة بني عباس هو طريقتهم في إحياء ذكرى مولد خير الأنام النبي محمّد عليه الصلاة والسلام، التي توارثوها أبا عن جد، فارتبطت بوجدانهم كأكبر موسم للاحتفال يجمع شمل المجتمع  من كل أنحاء التراب الوطني  وحتى الدولي وتطغى فيه مظاهر التكافل الاجتماعي والبهجة والفرحة والاحتفال.
تحضيرات على قدم وساق
 تعرف ديار بني عباس ابتداء من مطلع شهر ربيع الأول تحضيرات لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، إذ تسمع من المساجد والزوايا والمدارس القرآنية قراءات جماعية للبردة، وتحضّر النسوة الحنّاء في البيوت لتخضب أيديهن وأيدي أطفالهن لاسيما الذكور منهم الذين يختنون بمناسبة المولد النبوي الشريف.
كما تحضّر النسوة الأطعمة التقليدية الرئيسية التي تقدم يوم الاحتفال ولعل أهمها “الكسكس” و«البركوكس” المعروف في المنطقة واسمه عند سكان الجنوب “المردود” إضافة إلى “الروينة أو المردود”، وهي عبارة عن خليط من مسحوق القمح والفول السوداني والسكر وبذور نباتات عطرية تعرف في المنطقة بـ “حبة حلاوة والبسباس”، وهو خليط عادة ما يقدّم مع الشاي والحلوى بمناسبة ازديان إحدى الأسر في المنطقة بمولود جديد.
وتبركا بهذه المناسبة العظيمة، يكثر عقد القران والأفراح بكل أشكالها من عرس وخطوبة وإبرام عقود والشروع في مشاريع جديدة، لتكون ذكرى مولد النبوي الشريف وخيرالأنام  عليه الصلاة والسلام ذكرى لكل الأفراح والمناسبات السعيدة لتشدّ الرحال يوم اثني عشر ربيع الأول إلى مختلف الزوايا في المنطقة التي تقيم احتفالات دينية بهذه المناسبة، فترى القصر العتيق للقنادسة الذي يضم زاوية الولي الصالح سيدي محمد بن بوزيان يعج بالأطفال وهم يرتدون ألبستهم الجديدة يسعدون ويدركون قدسية الاحتفال الذي ينتظرونه ليعيشوا هذا الفرح مع زغاريد النساء.
والحديث عن مدينة بني عباس أو جوهرة العرق الغربي الكبير مدينة بني عبّاس هو حديث عن احتفال شعبي كبير بذكرى المولد النبوي الشريف، احتفال يجعلك تقف مندهشا وكأنّك انتقلت إلى كوكب آخر هو الفرح وأكثر، الحياة فيه تلاحم اجتماعي لا نظير له.
وحسب بن الطيب، تنفرد مدينة  بني عباس بكون هذا الاحتفال فيها شعبي، فتفاصيل نظامه حدّدها الأجداد وتوارثها الأبناء والأهالي هم من يمولونه، فتتحول بني عباس خلال أيام الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى مدينة لا تنام، ليخيّل إليك كأنك في طواف بالكعبة أو عروس تزف إلى بيت الزوجية وهي في فرح لامتناهي.
الإبريق،المقراح والحبوس للضيوف
داخل البيوت يحضر الرجال الابريق والمقراج الذي يعطي للاحتفال نكهة خاصة، وفي يوم الثامن من ربيع الأول تحضر النسوة ما يعرف عندهم بـ “حبوس” وهي عبارة عن أطباق الكسكس الذي يعرف في المنطقة بـ “الطعام”، يقدم لضيوف بني عباس أيام الاحتفالات، يقال سمي حبوس لأنه وقف على عائلة من بني عباس على عاتقها تقع مسؤولية تحضير هذا الطعام، وأصلها الطعام لمن أتى، إذ يحمل الطعام إلى المساجد ليأكل منه كل من جاء إلى بني عبّاس ليشاركهم فرحة ذكرى مولد رسول”ص”  .
كما تقيم النسوة ما يعرف “بالحضرة” داخل البيوت وهي عبارة عن مدائح دينية تعبر من خلالها المرأة عن فرحتها بمولد الهادي وفي اليوم الحادي عشر من ربيع الأول يقوم الأهالي بصباغة أضرحة أولياء الله الصالحين باللّون الأبيض وهو ما يعرف لديهم بـ “التجيار”.
وبعد صلاة العصر من نفس اليوم تنطلق مسيرة تلاميذ الزوايا والمدارس القرآنية لزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، ليجتمعوا بعد ذلك بالأهالي في الساحة المخصصة للاحتفال لتقام الحلقة الكبرى لـ “محمد صلوا عليه” التي يجب أن ينضم إليها كل من كان أصله من بني عباس، حتى ولو كان مقيما خارج أرض الوطن بني عباس...المدينة التي لا تنام ليلة 12 ربيع الأول، إذ يلتف الأهالي والزائرون ضيوف بني عباس في جموع كبيرة للاستمتاع بحلقة الراقصين “ملاد الرسول عليه” يؤدون الأهازيج ويطلقون البارود ويصفقون، يبهرك منظرهم بلباسهم التقليدي الموحد وبحماسهم في إنجاح الحلقة، فلا مجال للخطأ.
كما يلفت انتباهك بعض الرجال وهم يحملون صبية صغارا احتفالا بختانهم بمناسبة المولد النبوي الشريف، يلبسونهم لباسا تقليديا يحملون في أيديهم الصغيرة سعف النخيل، إنهم على صغر سنّهم يدركون بأنّ ما يحدث شيء رائع يبعث في الأجواء الفرح.
البارود بالقصر العتيق يكسر الصمت
أمّا في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو تاريخ ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام، فيأخذ الاحتفال شكلا آخر وفيه يخرج الرجال الذين كوّنوا طيلة الاحتفالات “حلقة محمد صلوا عليه” ليجوبوا بساتين المدينة التي هي مصدر رزق الأهالي وكأنّهم يدعونها لمشاركتهم الفرحة الكبرى كما ينزلون إلى القصر العتيق يجوبونه ويطلقون البارود، يريدون كسر صمت المكان، فهذه ذكرى مولد الهادي، الكون كله بكل جزئياته مدعو للفرح، للتهليل والتكبير.
ويستمر رجال الحلقة في هذه الجولة والأهالي والزائرون يتبعونهم، يردّدون أهازيجهم، يصفقون والنساء يزغردن زغرودة المولد، وهكذا تكون مدينة بني عباس وكل مدن الجنوب الغربي في موعد مع موسم ديني له تمايزه وقدسيته: مولد السيد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام .

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024