معاداة متزايدة تهدد النسيــج الاجتماعـي الفرنـسي الهـشّ
في مشهد بات يتكرر بحدة مقلقة، تتسارع وتيرة الخطابات والممارسات المعادية للمسلمين في فرنسا؛ البلد الذي لطالما قدّم نفسه كرمز للحرية والمساواة، غير أن الواقع بات يكشف وجها أكثر قتامة، تدفع ثمنه الجاليات المسلمة وعلى رأسها الجالية الجزائرية.
تصاعد الإسلاموفوبيا ليس سوى انعكاس لفشل سياسي داخلي، يتجلى بوضوح في عجز التيارات اليمينية المتطرفة عن تقديم بديل اقتصادي أو اجتماعي حقيقي، فتلجأ إلى استهداف “الآخر” –المسلم تحديدًا– لتعبئة جمهورها وبناء شرعيتها المزعومة. ولعل الجريمة الأخيرة التي راح ضحيتها رعية من مالي في الجنوب الفرنسي، تمثل قمة جبل الجليد لمناخ عداء متزايد يهدد النسيج الاجتماعي الفرنسي.
وتشير الإحصائيات الصادرة عن المرصد الفرنسي لمناهضة الإسلاموفوبيا، إلى تسجيل أكثر من 501 حالة اعتداء أو تمييز ضد المسلمين في عام 2024، بزيادة بلغت 32% مقارنة بعام 2023.
في السياق، أكد تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن فرنسا شهدت واحدة من أعلى نسب بلاغات الكراهية المرتبطة بالدين داخل الاتحاد الأوروبي. كذلك، أوضح تقرير المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، أن معظم هذه الحوادث تركزت في المناطق التي تعرف كثافة سكانية مغاربية، وهو ما يعزز فرضية التمييز العرقي إلى جانب الديني.
وتواصل السلطات الفرنسية التضييق على الجاليات المغاربية، ليس في الداخل فقط، بل حتى خارج حدودها. فقد أعلنت الحكومة الفرنسية عن نيتها تشديد الإجراءات المتعلقة بتحويل معاشات التقاعد لصالح المتقاعدين المقيمين خارج فرنسا، وعلى رأسهم الجزائريون.
ويزعم تقرير صادر عن مجلس المحاسبة الفرنسي، عن وجود “ثغرات” في نظام تحويل المعاشات، مشيرًا إلى خسائر مالية سنوية. وتعتزم فرنسا إرسال موظفين فرنسيين إلى القنصلية العامة بالجزائر العاصمة من أجل التحقق الميداني من شهادات الحياة الخاصة بكبار السن الذين يتقاضون هذه المعاشات، خاصة من تجاوزت أعمارهم 85 سنة.
وتزعم الحكومة الفرنسية، أن العديد من هذه الملفات قد تكون عرضة للتحايل من خلال إرسال وثائق مزورة بعد وفاة المعنيين، وهو ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات قد تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها في عمقها تحمل بعدًا تمييزيًا واستهدافًا ممنهجًا لفئات بعينها.
ومنذ عام 2022، اتخذ إجراء يتم من خلاله استدعاء المتقاعدين للتحقق من “وجودهم الفعلي”، في إجراء يصفه كثيرون بأنه مهين ومريب في توقيته ودوافعه.
خطاب سياسي عنصري
ولا يقتصر الأمر على الجرائم والتضييقات الفردية فقط، بل إن الخطاب السياسي الرسمي يسهم في تطبيع هذه الكراهية. فقد وصف وزير الداخلية الفرنسي اليميني روتايو، في تصريح مثير للجدل، أن “بعض المساجد تشكل تهديدًا محتملًا للجمهورية”، متغاضيًا عن أن هذه المؤسسات الدينية مرخصة وتعمل في إطار القانون. بالإضافة إلى ذلك، تم في العامين الماضيين إغلاق عشرات الجمعيات الإسلامية بذريعة “نشر الفكر المتطرف”، دون تقديم أدلة واضحة أو خضوعها لإجراءات قضائية عادلة. ومثل هذه الإجراءات لا تعزز الأمن، بل تخلق مناخًا من الشك والتخويف الجماعي تجاه فئة دينية بعينها.
ويشير باحثون في علم الاجتماع السياسي، إلى أن جزءًا كبيرًا من الطبقة السياسية الفرنسية، خاصة المحسوبة على اليمين واليمين المتطرف، توظف “فزّاعة الإسلام” كأداة لصرف النظر عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تعيشها فرنسا منذ سنوات، مثل التضخم، تفكك الخدمات العامة، وانعدام الثقة في المؤسسات السياسية. فحين يعجز الخطاب السياسي عن تقديم حلول ملموسة، يبحث عن “عدو داخلي” يسهل تحميله مسؤولية الإخفاقات.
غير أن هذا الانزلاق لم يمر دون معارضة داخلية، فقد برزت مواقف واضحة من قوى سياسية وشخصيات مدنية في فرنسا ترفض هذا التوجه الإقصائي..
حزب فرنسا الأبية (La France Insoumise) برئاسة جان لوك ميلونشون، أدان بشدة تصاعد الإسلاموفوبيا. واعتبر في بيان رسمي، أن “الحرب المعلنة على المسلمين الفرنسيين ليست سوى انعكاس لانهيار المشروع الجمهوري وتحوله إلى أداة للتمييز الممنهج”.
كما دعت شخصيات بارزة في المجتمع المدني، إلى فتح نقاش وطني حقيقي حول العلاقة مع الدين في الفضاء العام، بعيدًا عن الاستغلال السياسي.
وبرزت أصوات من داخل النخبة الأكاديمية والقضائية الفرنسية، تطالب بتعديل التشريعات التي تُستخدم لقمع الحريات الدينية تحت غطاء محاربة “الانفصالية”.
كما حذر تقرير حديث، صادر عن المعهد الفرنسي للسياسات العامة، من أن قوانين مثل “قانون مكافحة الانفصالية” تمثل خرقًا لمبدإ العلمانية ذاته؛ لأنها تميّز بين الأديان وتستهدف الإسلام بشكل خاص.
ما تشهده فرنسا اليوم، حسب متابعين، ليس مجرد موجة عابرة من التوتر الديني، بل هو مؤشر على تحولات أعمق في البنية السياسية والثقافية، حيث تتغذى الكراهية من رحم الانسداد الديمقراطي والانقسام الاجتماعي.
وإذا كانت فرنسا تريد أن تبقى وفية لقيمها الجمهورية، كما تدّعي، فعليها أن تعيد التفكير في سياساتها تجاه مواطنيها المسلمين، لا بصفتهم مشكلة أمنية، بل شركاء متساوين في المواطنة. أما الاستمرار في هذا المسار، فلن يؤدي سوى إلى تعميق الجراح وزعزعة الاستقرار الداخلي.