المحلّل الاقتصادي عبد النـور قاشي لـ” الشّعـب”:

الجزائر الجديدة تخطو بثبات نحو اقتصاد ما بعد البترول

خالدة بن تركي

تحـــول استراتيجــي يتجــاوز التبعيــة للمحروقــات

الابتكــار والشراكــات الجديــدة محرّكــات المرحلــة المقبلـــة

 تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة بوادر تحول اقتصادي واعد، في ظلّ سعي متزايد للخروج من التبعية لعائدات المحروقات، فقد بدأت الدولة تتّجه نحو تنويع الاقتصاد من خلال دعم قطاعات جديدة وواعدة، مثل الفلاحة الصّحراوية، الصناعات التحويلية، تطوير المؤسّسات الناشئة، وتسهيل بيئة الاستثمار لجذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وهو ما سجّله المحلّل الاقتصادي عبد النور قاشي في تصريح اختص به “الشّعب”..

وقال قاشي إنّ الخطوات الكبرى التي تحقّقت، تعكس وعيا متزايدا بضرورة التغيير، وفتح آفاق جديدة لبناء اقتصاد متوازن ومستدام فالتحول الحقيقي لا يتمّ بين ليلة وضحاها، لكنه يبدأ بإرادة سياسية واضحة، وخطط عملية، ومشاركة فعّالة من مختلف فئات المجتمع، الدولة، القطاع الخاص، الشباب، وحتى المواطن، فالأمل قائم والفرص متاحة، وما تحتاجه الجزائر للاستمرار في هذا المسار، من أجل مستقبل اقتصادي أكثر تنوعا واستقرارا.

اقتصـــاد جديـــد..

 إلى جانب الجهود القائمة، بدأت تظهر مبادرات فعّالة من القطاع الخاص، سيما في مجالات التكنولوجيا والزراعة والصناعة، حيث سجّل ارتفاع في عدد حاملي المشاريع الذين استفادوا من أجهزة دعم التشغيل مثل (“أناد” و«كناك”)، ممّا ساهم في خلق آلاف المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، كما ارتفع عدد مراكز الابتكار وحاضنات الأعمال عبر ولايات الوطن، فيما تتجاوز قيمة الصادرات غير النفطية 7 مليار دولار سنة 2025، وهو أعلى رقم تسجّله الجزائر منذ أكثر من عقد، هذه الأرقام تعكس تحرّكا إيجابيا نحو تنويع مصادر الدخل، واستغلال الإمكانات الكبيرة التي تملكها البلاد، سواء من حيث الموارد أو الطاقات البشرية.
هذا التوجّه، يؤكّد على وجود إرادة قوية لبناء اقتصاد وطني متنوع ومستدام، يقلّل من التبعية للمحروقات ويمنح فرصا جديدة للشباب والمستثمرين، ومع تزايد دعم الدولة للمؤسّسات الناشئة وتسهيل الوصول إلى التمويل، تلوح في الأفق بوادر مرحلة اقتصادية جديدة، يكون فيها الابتكار والإنتاج المحلي في قلب النمو والتنمية.
كما بدأ الاهتمام أكثر بتكوين الشباب وتطوير مهاراتهم في مجالات جديدة مثل التكنولوجيا، الفلاحة والصناعة، بهدف تجهيزهم لسوق العمل ومساعدتهم على إطلاق مشاريعهم الخاصة، هذا التوجّه يمثل رغبة حقيقية في خلق اقتصاد يعتمد على الإنتاج والمعرفة، ويقلّل من الاعتماد على النفط والغاز.

الإصـلاح الاقتصــادي

 أوضح عبد النور قاشي، أنه منذ نهاية 2019، بدأت الجزائر تخطو خطوات جدية نحو إصلاح اقتصادي حقيقي، يهدف إلى تقليل الاعتماد على المحروقات وتنويع مصادر الدخل، هذا التوجّه لم يكن مجرّد استجابة لأزمة ظرفية، بل نابع من رؤية استراتيجية شاملة أرادت من خلالها الدولة بناء اقتصاد أكثر تنوعا واستقرارا.ومن أبرز هذه الخطوات -يقول المتحدث- إلغاء قاعدة 51/49 التي كانت تعيق الاستثمار الأجنبي، ثمّ إصدار قانون جديد للاستثمار جاء بمجموعة من التحفيزات لتشجيع المبادرات الاقتصادية، وقد بدأت ثمار هذه السياسات تظهر تدريجيا، خاصة في القطاع الصناعي، الذي يشهد نموا مدعوما بإجراءات عملية وتشجيع على التصدير.
وساهمت الدبلوماسية الاقتصادية -يواصل قاشي- في فتح أسواق جديدة للمستثمرين المحليّين، كما شهدت السنوات الأخيرة توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والتعاون مع دول إفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية، وهو ما أتاح فرصا واعدة لتصدير المنتجات الجزائرية وتعزيز حضور المؤسّسات الوطنية في محيطها الإقليمي والدولي.أفاد محدثنا أنّ كل هذه الإجراءات جاءت لتؤكّد وجود إرادة سياسية واقتصادية واضحة تهدف إلى تشجيع الاستثمارات المنتجة، وتحفيز النمو في القطاعات البديلة، وعلى رأسها القطاع الصناعي باعتباره ركيزة أساسية لأي اقتصاد متنوع ومستدام.كما يشهد قطاع الفلاحة -يقول قاشي- اهتماما كبيرا خاصة في الجنوب، حيث تمّ استصلاح مساحات معتبرة في إطار مشاريع الفلاحة الصّحراوية، مع تسجيل إنتاج وفير في محاصيل مثل البطاطا والقمح، وفي السياحة، ارتفع عدد الزوار الأجانب إلى أكثر من 3 ملايين سائح سنة 2024 ومن المتوقّع أن يصل إلى 4 ملايين السنة الجارية، وهو ما يعكس تحسّن البنية التحتية والخدمات السياحية.و في مجال الاقتصاد الرّقمي، تجاوز عدد المؤسّسات الناشئة 9 آلاف شركة مبتكرة عام 2025، بدعم من حاضنات الأعمال ومراكز الابتكار، بينما حقّقت الصناعات الثقافية والإبداعية مداخيل كبيرة من التصدير نحو الخارج، وهو ما يعزّز مساهمتها في الدخل الوطني.
وأشار المحلّل الاقتصادي إلى أهمية الدبلوماسية الاقتصادية في دعم مسار التحول الاقتصادي، من خلال تنويع الشراكات الخارجية وفتح أسواق جديدة أمام المنتجين والمستثمرين الجزائريّين، بعيدا عن الاعتماد الحصري على الشركاء التقليديّين مثل الاتحاد الأوروبي.ويتجلّى هذا التوجّه في انضمام الجزائر كمراقب في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وتفعيل مشاركتها في منطقة التجارة الحرّة القارية الإفريقية “زليكاف”، إلى جانب تعزيز التعاون مع بلدان الجنوب، باعتباره خيارا استراتيجيا لبناء اقتصاد أكثر انفتاحا وتوازنا

نمـو متــوازن

 وقال قاشي -في السياق ذاته- إنّ قطاع المحروقات بالجزائر لم يعد المصدر الوحيد للدّخل القومي، بل أصبح يُنظر إليه كقاعدة انطلاق نحو اقتصاد أكثر تنوّعا، فقد بدأت الدولة في دعم قطاعات جديدة وواعدة، مثل الصناعات الغذائية التحويلية، والزراعة، والسياحة، والطاقات المتجدّدة، إلى جانب الصناعات الميكانيكية وصناعة السيارات.
وتظهر المؤشّرات -يؤكّد قاشي- أنّ الاقتصاد الجزائري بدأ يعتمد أكثر على القطاعات غير النفطية، وهو ما يعني أنّ البلاد بدأت فعليا في تقليل اعتمادها على المحروقات، كما زادت الصادرات خارج قطاع الطاقة بشكل واضح، وهو ما يعد خطوة مهمة نحو تنويع الاقتصاد وفتح آفاق جديدة في الأسواق الخارجية.في قطاع الزراعة، ارتفعت المساحات المزروعة بشكل واضح، كما تستهدف الجزائر إنتاج 5 ملايين طنّ من الحبوب، مع التركيز على تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب بحلول عام 2026، وتسعى إلى تقليص واردات الحبوب التي تجاوزت 9 ملايين طنّ سنويا.
وعرج قاشي إلى الأزمات العالمية المتكرّرة التي أدركت من خلالها الجزائر ضرورة تقوية أمنها الغذائي والصناعي كخيار استراتيجي لضمان استقرارها الداخلي، خاصة وأنّ التجارب الأخيرة أظهرت أنّ الاعتماد الكبير على الخارج في توفير الغذاء والمواد الأساسية يجعل الدول عرضة لهزّات مفاجئة، سيما عند تعطّل سلاسل الإمداد أو ارتفاع الأسعار العالمية بشكل حاد.واستجابة لذلك -يقول المتحدث- اتجهت بلادنا نحو دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الاستثمارات في الزراعة والصناعات التحويلية، بهدف تقليص التبعية وتقوية قدراتها الذاتية، وقد شملت هذه الجهود تسهيل تمويل المشاريع، توفير العقار الفلاحي والصناعي، وتحفيز الشباب على دخول هذه المجالات الحيوية.

خيـارات استراتيجيــة

 وأكّد عبد النور قاشي، أنه في ظل التحديات العالمية الكبرى، أثبتت الجزائر قدرة اقتصادها الوطني على الصمود أمام أزمات متعدّدة، مثل جائحة كوفيد-19 وتقلّبات أسعار الطاقة في السوق الدولية، فقد أظهرت التجارب السابقة، خاصة خلال فترات تراجع أسعار النفط، مدى هشاشة الاقتصاد الذي يعتمد بشكل شبه كلي على عائدات المحروقات.
هذا الواقع، دفع بالدولة إلى تبنّي توجّه استراتيجي يقوم على تنويع مصادر الدخل الوطني، عبر تقوية قطاعات بديلة وواعدة مثل الزراعة، الصناعة، وقطاع الخدمات.
ومن بين أهمّ الدروس المستخلصة -يفيد قاشي- أنّ بناء اقتصاد قوي لا يتحقّق إلا بوجود قاعدة صناعية صلبة ومتنوعة، تكون قادرة على خلق الثروة وتوفير فرص العمل، بعيدا عن منطق الريع، ولهذا السبب، تواصل الدولة دعمها للمشاريع الإنتاجية، وتشجيع روح المبادرة لدى الشباب، إلى جانب تهيئة مناخ استثمار محفّز يجذب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية، في إطار رؤية شاملة لتحقيق النمو المتوازن.وفي السياق، أشار قاشي إلى الدور الذي تلعبه الدبلوماسية الاقتصادية في فتح آفاق جديدة للتعاون الخارجي، بينما ينتظر من القطاع الخاص أن يضاعف من استثماراته ويستغل التسهيلات الممنوحة من طرف الدولة، كما يعوّل على الشباب، وخاصة حاملي المشاريع، أن يندمجوا في هذه الديناميكية الجديدة من خلال إنشاء مؤسّسات ناشئة وصغيرة، تساهم في دفع عجلة التنمية وتشكّل قيمة مضافة للاقتصاد.وعليه، فإنّ الجزائر اليوم تسير بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد متنوع وأكثر توازنا، من خلال دعم الإنتاج المحلي، وتشجيع الاستثمار، وتمكين الشباب، هذا التوجّه يعكس إرادة حقيقية للخروج من التبعية للمحروقات وفتح آفاق جديدة للتنمية، بما يضمن مستقبلا اقتصاديا أكثر استقرارا واستدامة للبلاد.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19842

العدد 19842

الأربعاء 06 أوث 2025
العدد 19841

العدد 19841

الثلاثاء 05 أوث 2025
العدد 19840

العدد 19840

الإثنين 04 أوث 2025
العدد 19839

العدد 19839

الأحد 03 أوث 2025