خــطط لوجستيــة تجعل المــادة الأوليـة متاحـة بـلا انقطاعــات
تؤكّد الجزائر من جديد مسار تحولها الاقتصادي، مع انطلاق التشغيل الفعلي لمصنع “كتامة” لسحق البذور الزيتية، فتدفع بسلسلة قيمة متكاملة تربط الحقل بالمعمل وبالسوق وتحوّل الزيوت من استيراد مرهق إلى منتج صناعي محلي، يحد من تقلبات الأسعار ويخفّف الضغط على النقد الأجنبي ويخلق طلبًا على المهارات الجامعية والتقنية في الكيمياء الصناعية وضبط الجودة والميكانيك واللوجستيات، وفي سياق متصل يعيد المشروع توزيع الجغرافيا الصناعية نحو ولايات جديدة، بما يرفع الدخل المحلي ويقلّل مركزية النشاط الاقتصادي ويثبت أنّ خطاب التنويع خرج من قاعات الاجتماعات إلى خطوط الإنتاج التي تقاس طاقتها يوميًا.
يقدّم “كتامة” مكسبين مباشرين للاقتصاد الوطني، إذ يوفّر زيتًا خامًا لزيوت المائدة ويخرج في الوقت نفسه كُسورًا بروتينية عالية القيمة لصناعة الأعلاف، فتتحقّق معادلة إحلال مزدوجة تخفض واردات الزيوت وتقلّص استيراد بقايا فول الصويا، التي تشكّل الكلفة الكبرى لتربية الدواجن والماشية، وكذلك ينعكس هذا الإحلال على أسعار اللحوم البيضاء والحمراء ومشتقات الحليب، عندما تستقر الطاقات وتنتظم الإمدادات، علاوة على ذلك يفتح المصنع قناة طلب مستدامة على الزراعة التعاقدية لبذور دوار الشمس ومحاصيل زيتية أخرى، بما يقلّص هشاشة التزوّد ويمنح المستثمرين الصناعيّين وضوحًا في المدخلات.
كذلك، يتجاوز الأثر حدود المصنع إلى منظومة أمن غذائي تتشكّل من حلقات متصلة، ففي نفس السياق تعمل مشاريع السكر على تقليص الواردات عبر التكرير المحلي عالي القيمة، وتدفع الشراكة القطرية في الألبان نحو إنتاج مسحوق الحليب عبر مزارع ومعامل متكاملة، بينما تتحرّك الشراكات الزراعية مع فاعلين دوليّين في الحبوب والحبوب الجافة والبقوليات لتوسيع المساحات المزروعة، وفق نموذج حديث في الري والميكنة والتعاقد، بالإضافة إلى تحسّن البنية اللوجستية في التخزين البارد والنقل ومحطات المناولة، بما يقلّل فاقد السلاسل ويزيد سرعة الدوران السلعي.
وتظهر الحسابات التحفظية أنّ وفرة العملة الصعبة مرشّحة للارتفاع مع نضج التشغيل، فإذا غطّى كتامة حصة معتبرة من احتياج السوق من الزيت الخام واستبدلت صناعة الأعلاف جزءًا وازنًا من بقايا الصويا المستوردة بمنتج محلي، فإنّ الوفر السنوي قد يقترب من عتبة تتجاوز 500 مليون دولار بحسب أسعار المواد الأولية ومعدلات الإحلال، وفي سياق متصل يعزّز هذا الوفر قوة الميزان التجاري ويخفّف حساسية الدينار لصدمات الغذاء العالمية ويقلّص موجات التضخّم المستورد، التي كانت تتغذى من اضطراب سلاسل التوريد ومن ارتفاع أسعار الزيوت عالمياً خلال الأشهر الماضية.
ويرتبط نجاح هذه الحلقة الصناعية بآليات حوكمة تنفيذية واضحة لا بشعارات عامة، إذ يضع رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون أهدافًا قابلة للقياس من طاقات يومية ونسب إحلال ومواصفات جودة وسلامة غذائية، وكذلك تربط الحكومة البرامج بعقود زراعية وتمويلات موجّهة وبخطط لوجستية تجعل المادة الأولية متاحة بلا انقطاعات، علاوة على ذلك تُستَثمر الجامعات ومعاهد التكوين لمدّ السوق بكفاءات تشغيل وصيانة وتحليل مخبري ومراقبة الجودة، فينعكس ذلك على إنتاجية العمل وتكاليف الصيانة ووتيرة التوقفات الفنية ويقلّل فجوة المهارات التي كانت تعطل التصنيع الغذائي.
ويؤكّد هذا المسار أنّ الإصلاح الاقتصادي الجاري ليس تجميلاً قطاعيًا، بل إعادة بناء لهيكل النمو على قاعدة الإنتاج والتصنيع بدل الريع، ففي نفس السياق تتقدم سلاسل الغذاء باعتبارها أكثر حساسية لرفاه الأسر وأكثر قدرة على تعميم أثر الاستثمار على الولايات، بالإضافة إلى أنّ تكامل الزيت والسكر والألبان والحبوب يخلق طلبًا متشابكًا على التعبئة والتغليف والكيماويات الخفيفة وخدمات الصيانة الصناعية، فتتّسع القاعدة الضريبية وتتحسّن ثقة البنوك بتمويل رأس المال العامل، عندما تتراجع مخاطر الإمداد وتتضح هوامش الربح.
ويستند هذا التحول إلى رؤية رئيس الجمهورية، حيث يضع الأمن الغذائي في قلب الاستقلال الاقتصادي، فتطالب بنتائج ملموسة لا بوعود مفتوحة وتربط المؤشّرات التقنية بمستهدفات اجتماعية تتعلّق بالتشغيل واستقرار الأسعار وقدرة الأسر على الاستهلاك، وكذلك تحيّد حملات التشويش التي تواكب كل نقطة انعطاف بالعودة إلى لغة الأرقام في النمو الحقيقي والميزان التجاري والتضخّم الغذائي ووتيرة خلق مناصب الشغل، علاوة على ذلك يثبت الأداء أنّ سياسة “التسيير الذكي” ليست وصفًا إنشائيًا بل طريقة قرار تحوّل الاعتمادات إلى طاقات إنتاج، وتحول الطاقات إلى وفورات عملة صعبة، وتحول الوفورات إلى استقرار نقدي وسعري.
وتُلخّص تجربة “كتامة” ما يعنيه بناء اقتصاد غير ريعي في ممارسة يومية لا في عناوين عامة، إذ يجتمع الإحلال الصناعي للزيوت مع إحلال الأعلاف وتوسّع الزراعة المتعاقدة وتحديث النقل والتخزين، لتشكيل شبكة أمان غذائي تقلّل التقلّب وتزيد مناعة السوق، وفي سياق متصل يرسّخ هذا المسار مكانة الجزائر كاقتصاد يراكم القيمة محليًا ويعيد توزيع الثقل الصناعي على التراب الوطني ويمنح الشباب الجامعي فرصًا نوعية، والنتيجة المتوقّعة بسيطة في معناها عميقة في أثرها، قدرة أكبر على امتصاص صدمات الخارج، ميزان تجاري أكثر صلابة، وأسعار أكثر استقرارًا تنعكس مباشرة على حياة الناس وتغذي نموًا مستدامًا لا يقوم على الريع بل على الإنتاج الحقيقي المتكامل.