توفير بيئة لنظام مصرفي وأداء تكنولوجي نوعي للحـد مـن السيولـة النقديـة
اتخذت الجزائر، على غرار باقي دول العالم، بحكم ارتباطها بالنظام المالي العالمي، جميع التدابير الاستراتيجية والتنظيمية من أجل تحقيق التحول الرقمي على مستوى مؤسساتها المالية ووسط المحيط الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، بدءاً بإدراج عدة إجراءات ضمن قانون النقد والصرف الجديد، أهمها الدينار الرقمي وتحصين المنظومة المصرفية من التلاعبات غير المشروعة، والحد من السيولة النقدية لتحديد مسار الأموال بدقة.
أوضح الخبير المالي محمد حيمران، أن عصرنة قطاع المالية بات أمرا حتميا، نظرا للأهمية الكبيرة التي يكتسيها النظام المصرفي والدور الذي يلعبه في تمويل الاقتصاد الوطني عبر تنويع وتعزيز المنتجات المالية. مؤكدا، أن عصرنة النظام المصرفي ورقمنته ستسمح بتحقيق الشمول المالي وزيادة الادخار، إضافة إلى امتصاص السيولة المتواجدة خارج النظام المصرفي.
وبالمقابل، ستمكن عملية العصرنة، التي تسابق وزارة المالية الزمن من أجل تعميمها على مستوى جميع مديرياتها والمؤسسات المصرفية التابعة لها، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ستمكن من توفير خدمات الدفع الإلكتروني أو الخدمات “عن بعد” وهو ما نهدف من خلاله -يقول حيمران- إلى زيادة تدفق رؤوس الأموال المتواجدة بالخارج ومضاعفة الاستثمارات الأجنبية ببلادنا.
وأشار إلى أنه، وفي نفس الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة رقمنة المنظومة المصرفية، تعرف الصيرفة الإسلامية رواجا وتطورا كبيرين، بالنظر إلى الزيادة المعتبرة التي سجلتها المعاملات المصرفية وفق هذا النوع الصيرفي الذي استقطب عددا كبيرا من المواطنين.
منظومة رقميـة لكبــح التجــاوزات
وعن رقمنة مختلف الأجهزة التابعة لقطاع المالية، يرى الخبير المالي أن رقمنة المديرية العامة لأملاك الدولة أمر استراتيجي، بالنظر لحساسيته التي تفرض تحيينا منتظما للمعلومة، تفاديا للفوضى والتجاوزات. وأشار المتحدث، إلى أن هذه الأخيرة تحصي لحد الآن 9 تطبيقات معتمدة من أجل تنظيم مصالحها الخارجية، حيث تم دمج مصلحة دمج الأراضي والحفظ العقاري ضمن مصلحة مشتركة.
كما تم إطلاق نظام رقمي يسمى “Thec Don”، يهدف إلى رقمنة شاملة للمديرية العامة وتحصين الموارد العامة. إضافة إلى تطبيق إلكتروني خاص بالمحجوزات، يعمل على متابعة المحجوزات من بداية حجزها إلى غاية عرضها للبيع. وهناك تطبيق إلكتروني خاص بالمصادرة وآخر خاص بأملاك الدولة المتواجدة خارج التراب الوطني، وتطبيق خاص بالمحافظات العقارية.
وقد علق محمد حيمران عن الخطوات التي تم تجسيدها إلى حد الآن على مستوى مديرية أملاك الدولة، بالضرورية والمهمة من أجل الإسراع في توفير المعلومات بشكل يضع حدا للخلافات المتعلقة بملكية العقارات وتسهيل تنظيمها بين الأقاليم الجغرافية من بلديات وولايات.
من جهة أخرى، تعمل مديرية الضرائب على الرفع من وتيرة رقمنة مصالحها، من خلال استحداث عدة تطبيقات إلكترونية، عدد المتحدث بعضا منها، على غرار تطبيق “جبايتك” و«مساهمتك” و«SGF”، المعتمدة على مستوى الولايات. ويقترح الخبير المالي، التفكير في كيفية التخفيف من الضغط الذي تعاني منه هذه التطبيقات، خلال المواعيد المخصصة للتصريح والمقدرة بـ20 يوم بالنسبة للتصريح الشهري الخاص بالتصريح الضريبي.
في هذا المجال، نوه ذات المتحدث بالمستوى المتقدم المسجل على مستوى المديريات العامة لمختلف القطاعات، من حيث التصريح الضريبي عن بعد، ما يعبر عن انتشار ثقافة التعاملات الإلكترونية عن بعد وسط المحيط الإداري، حيث يوفر على المتعاملين الكثير من عناء التنقل وتخفيف الضغط على مكاتب الدفع المتمركزة على مستوى العاصمة.
العملـة الرقميـة.. تحصـين المنظومـة المصرفيـة
وبما أن الحديث يتعلق برقمنة المنظومة المصرفية، فإن التطرق إلى الشق المتعلق بالعملة الرقمية، التي تستند على تقنية “البلوك تشان”، يفرض نفسه كأحد المحاور المهمة التي جاء بها قانون النقد والصرف الجديد، إلى جانب كونه تحديا عالميا، حيث تكهّن تقرير بنك التسويات الدولية لسنة 2020 -مسبقا- في دراسة استشرافية، قيام البنوك المركزية بإطلاق عملات وطنية رقمية، يقول محمد حيمران، الذي يتوقع أن يحدث الدينار الرقمي ثورة في نماذج التعاملات وتفعيل روابط اقتصادية جديدة قائمة على اللامركزية والشفافية.
وأفاد في السياق، أن هذا النمط الجديد من التعامل المصرفي، سيشمل بالدرجة الأولى منظومة الدفع الإلكتروني، والمدفوعات والتحويلات الخارجية، كما سيسهل من عمليات الدفع، إلى جانب التقليل من تكاليف المعاملات المالية.
من جهة أخرى، اعتبر الخبير المالي رقمنة نظام المدفوعات، من أهم التعديلات التي جاء بها القانون النقدي والمصرفي الجديد، وخطوة جريئة أقدمت عليها الجزائر من أجل إصلاح المنظومة النقدية والمصرفية التي ظلت ثابتة لأكثر من عقدين من الزمن، دون أن يطالها أي تعديل، بالنظر للتغيير الاقتصادي والتنظيمي عبر العالم، رغم أنها إحدى الآليات الأساسية لتطوير الاقتصاد.
ويرى حيمران، أن الإجراءات الرقمية تهدف إلى تعميم وسائل الدفع الإلكتروني وتوفير نظام بيئي مالي داعم لتوسيع التكنولوجيا المالية، التي ينتظر أن تتم وفقها التحويلات المالية وتسويات السيولة بين المؤسسات المالية، من خلال البروتوكولات المالية المتداولة، بدلا من التحويلات عبر الطرق التقليدية التي عادة ما تستغرق وقتا طويلا، ما يؤثر سلبا على حركة السيولة المالية.
كما سيسمح اعتماد الدينار الرقمي من طرف البنك المركزي، أردف ذات المتحدث، بتتبع مسار السيولة بكل دقة وتحديد نوعية التعاملات التي تتم عبرها من وسائل دفع، أكانت بواسطة الشيكات، أو البطاقات أو دفع إلكتروني.
الدفع الإلكتروني.. ثقافة وليدة العصرنـة
وبتطرقه إلى مسألة الدفع الإلكتروني، كرهان تعمل السلطات العمومية على تعميمه خلال آجال قياسية، شدد حيمران على أهمية نشر ثقافة المعاملات الإلكترونية وسط جميع شرائح المجتمع، وما تمثله من معيار مهم للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وضرورة توسيع دائرة الدفع الإلكتروني من أجل تحقيق أهداف الشمول المالي، من خلال تطوير المنشآت الأساسية لدعم التكنولوجيا المالية وإشراك أوسع للشبكة البريدية، والتعديل بعصرنة الأنظمة الإلكترونية للحد من السيولة النقدية وتشجيع التجارة الإلكترونية وأدوات تطويرها، بما فيها القوانين المتعلقة بتأطيرها وتنظيمها، والتحفيزات الجبائية المرافقة للتجارة الخارجية عبر الدفع الإلكتروني.
في هذا الصدد، أفاد حيمران بأن مؤسسة بريد الجزائر، التي حققت نقلة نوعية -تحسب لها- في مجال الخدمات الإلكترونية، قد انتقلت ما بين سنتي 2020-2024 بنسبة 100% إلى المعاملات الإلكترونية، حيث تضاعف عدد حاملي البطاقات الذهبية من 6 ملايين إلى 13 مليون بطاقة ذهبية خلال السداسي الأول من سنة 2024. إلى جانب تسجيل 98% من العمليات التي تتم إلكترونيا.بالمقابل، حقق القطاع المصرفي نقلة نوعية تم من خلالها تعزيز التغطية البنكية، أرجعها الخبير المالي إلى الجهود المبذولة من طرف المؤسسات المالية العمومية التي تمثل 85% من مجموع المؤسسات المالية والبنوك المتواجدة ضمن المنظومة البنكية الجزائرية.
وبلغ عدد الوكالات البنكية نهاية 2023، حوالي 1800 وكالة بنكية، تقابلها 6500 نقطة بيع لمؤسسات التأمين التي تدعم بدورها القطاع المصرفي، و4 آلاف وكالة تابعة لبريد الجزائر، أين تجاوز عدد الحسابات المصرفية 12 مليون حساب بقيمة 3600 مليار دج.في هذا الصدد، دعا حيمران إلى تشجيع القطاع البنكي الخاص على اعتماد النظم الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، ما يرفع من كفاءة الخدمات المالية وزيادة جودتها، وتحقيق الانتقال من الخدمات المالية الكلاسيكية إلى العصرية، من أجل تحقيق الشمول المالي والتنمية الاقتصادية.
تبييــض الأموال.. جرائــم أثـــرت علــى المصـارف
وعن جانب آخر من المعاملات البنكية، لطالما شكل خطرا على المال العام وهاجسا لدى السلطات العمومية، متمثلا في الجرائم المتعلقة بتبييض الأموال، حذر محمد حيمران مما أسماه “الجريمة البيضاء”، كونها تلوث المؤسسات المصرفية والبنكية، باعتبارها صمام أمان المال العام وأموال المواطنين.
وأكد حيمران، أن تبييض الأموال قد ارتبط تاريخيا ومنذ زمن طويل، بالنظام المصرفي، ما يلزم البنوك في مواجهتها لهذه الجريمة، بأن تطوّر استراتيجيتها وفقا لمنظومة إلكترونية مؤمَّنة، قادرة على التصدي للتنامي المستمر للأنشطة غير الشرعية وغير القانونية.
فاليوم، يتابع حيمران، يقع على عاتق البنوك مسؤولية اعتماد بطاقات الائتمان أو ما يسمى “بالنقود البلاستيكية”، وأجهزة الصرف الآلي “ATM”، والبطاقات الذكية التي تتيح للعملاء سحب الأموال دون حاجز المكان، كأساليب حديثة فرضها التحول الرقمي، مؤكدا على ضرورة توخي الحذر عند الاستعمالات غير المشروعة لها. ليصبح التحول الرقمي سلاحا ذا حدين.