حين تلهم الجزائر العاصمة الفنان سمـير دجاما 

60 صـورة فوتـوغــرافـيـة تخـلـد ذاكــرة مكــان

فاطمة الوحش

يستقبل الفضاء الثقافي أحمد ورابح عسلة بالعاصمة الجزائر، منذ السادس والعشرين من أفريل وإلى غاية العاشر من ماي الجاري، معرضا فوتوغرافيا يوقعه المصور سمير دجاما، تحت عنوان “الجزائر..حينما تلهمني”.
 في هذا الفضاء، تتنفس الصور، وتحكي مدينة بكامل تجلياتها، من صخبها اليومي إلى سكون زواياها المهملة، ومن معمارها العريق إلى وجوه أهلها العابرة. لا يكتفي المعرض بعرض صور مجردة، بل يقدّم تجربة فنية وبصرية تنبع من الذاكرة وتتوجه نحو المستقبل، جاعلا من الصورة الفوتوغرافية وسيلة للتأمل، ولإعادة نسج العلاقة بين الإنسان وفضائه، بين الفنان وآلته، وبين اللحظة العابرة والجوهر العميق.
في هذا الفضاء الغارق في ضوء الذكريات، يستعرض دجاما ما يزيد عن ستين عملا فوتوغرافيا، تنقل الزائر في رحلة حسية عبر شوارع وأزقة الجزائر العاصمة، من البحر إلى القصبة، من المعالم الكبرى إلى الزوايا المهملة. أعمال تتنوع بين الأحجام الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، لكنها تتوحد جميعًا تحت رغبة واحدة: تخليد الجمال اليومي، العابر، الذي قد لا نلاحظه في زحمة العيش، لكنه هناك، كامن في كل تفصيل، ينتظر عينًا حساسة تلتقطه.
عند لقائه يوم الافتتاح، تحدث الفنان بكثير من العاطفة عن هذا المشروع الذي وصفه بأنه ثمرة عمرٍ قضاه في المدينة، مدينة شهدت نشأته، وعبرت معه كل مراحل الحياة. يقول: “الجزائر لم تكفّ عن مفاجأتي. هي المدينة التي ولدت فيها، عشت فيها طفولتي وشبابي، ورغم كل السنوات التي مرت، لا تزال تكشف لي وجوها جديدة، كأنها لا تنضب. أردت أن أشارك جمهوري هذا الشعور، أن أعرض لهم الجزائر التي أحبها، التي أعرفها، والتي أكتشفها كل يوم”.
المعرض مقسّم إلى مسارين متكاملين من حيث الفكرة، مختلفين من حيث التقنية والتجربة البصرية. المسار الأول يستند إلى الصورة الفوتوغرافية الكلاسيكية، بتقنياتها النقية والبسيطة، بالأبيض والأسود أو بالألوان، حيث تهيمن على الصور مشاهد من الحياة اليومية: واجهات المباني، زوايا الأزقة، لحظات عابرة في الأسواق أو في الساحات الشعبية. وتُظهر هذه الصور حساسية عالية في التقاط الضوء والظل، في اختيار الإطار، وفي تقديم المشهد الحضري للجزائر كلوحة سحرية لا تحتاج إلى تزيين، يكفي فقط النظر إليها عن قرب. وكأن الفنان يوجه عدسته مثل قلم، يكتب به تاريخا بصريا غير مدون، ويحفر به على الذاكرة الجماعية علامات لا تمحى.
وفي هذه المقاربة الكلاسيكية، لم يغفل دجاما البُعد التربوي والتوثيقي، إذ عرض إلى جانب الصور ستة أجهزة تصوير قديمة، كانت جزءًا من أدواته الأولى. هذا الجزء من المعرض يحيل الزائر إلى تاريخ التصوير نفسه، ويذكر الأجيال الجديدة بأن ما نعتبره اليوم تكنولوجيا بديهية كان يومًا ما ثمرة جهد وصبر وعمل يدوي دقيق. إنها دعوة للتأمل في أصل الصورة، في مادتها، وفي المعاناة التي رافقت إنتاجها قبل أن تصبح لقطة رقمية تلتقط بلمسة إصبع.
أما المسار الثاني في المعرض، فيمثل مغامرة فنية حقيقية، يخوض فيها دجاما غمار الذكاء الاصطناعي، ولكن دون أن يفقد بوصلته الجمالية والإنسانية. في هذا القسم، تعرض صور أصلية أعيدت معالجتها بالذكاء الاصطناعي، لتبدو وكأنها لوحات مرسومة بأنامل رسام من عصر النهضة أو الباروك. وجوه تنبعث منها ظلال كثيفة، شوارع تتلوّن بضوء خافت، معالم تُبرز تفاصيل لم تكن مرئية في النسخة الأصلية، وكأن التقنية الحديثة لم تضف فقط بعدا بصريا جديدا، بل أعادت بعث المدينة بحس شاعري ومجازي.
ورغم ما قد يثيره توظيف الذكاء الاصطناعي في الفن من تساؤلات وحتى تحفظات، يحرص الفنان على التأكيد أن هذه التجربة لا تهدف إلى استبدال الإنسان بالآلة، بل إلى توظيف التقنية لخدمة الرؤية الفنية. يقول: “الذكاء الاصطناعي لا يملك روحا، لكن الفنان قادر على أن يمنحه روحا حين يعرف كيف يوجهه. بالنسبة لي، ليس هناك خطر من التكنولوجيا ما دامت الأداة بيد الفنان، وما دام المعنى ينبع من الإنسان”. ويضيف بأن المعرض هو في حد ذاته “رسالة طمأنة” بأن الإبداع لن يكون يومًا حكرًا على الآلة، بل على العكس، التكنولوجيا حين تُوظف بإحساس يمكن أن تعمق التجربة الفنية، وتفتح آفاقا جديدة للتعبير.
الجزائر التي تظهر في صور سمير دجاما ليست فقط مدينة مباني أو بحر أو شوارع، بل هي كائن حي، يتنفس، يعيش، يتغير. تتجلى فيها القصبة في تعرجاتها التي تخبئ الأسرار، ويُعاد اكتشاف الواجهة البحرية من خلال بانوراما تفيض بالضوء، وتظهر ساحة الأمير عبد القادر، البريد المركزي، وجامع الجزائر كرموز حية، ليست جامدة في التاريخ، بل نابضة بالحضور اليومي. ولا تقتصر الصورة على المعمار، بل تشمل البشر: الوجوه، الحركات، الأزياء، التقاليد..إنها الجزائر في أبسط تفاصيلها، وفي أعمق تعقيداتها.
للإشارة، سمير دجاما مصور جزائري محترف بدأ مسيرته في ثمانينيات القرن الماضي، وراكم تجربة طويلة في توثيق التحولات العمرانية والاجتماعية التي عرفتها الجزائر العاصمة. عُرف بحساسيته العالية تجاه التفاصيل اليومية، وبأسلوبه المتأمل الذي يزاوج بين البعد التوثيقي والطرح الجمالي. وعلى الرغم من خلفيته الكلاسيكية، لم يتردد في خوض مغامرات بصرية جديدة، آخرها توظيف الذكاء الاصطناعي في أعماله، ما جعله يواصل مشروعه الفني برؤية متجددة تربط بين الذاكرة والتقنية، بين الحنين والاستكشاف.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19764

العدد 19764

الإثنين 05 ماي 2025
العدد 19763

العدد 19763

الأحد 04 ماي 2025
العدد 19762

العدد 19762

السبت 03 ماي 2025
العدد 19761

العدد 19761

الأربعاء 30 أفريل 2025