أطلق مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC) دعوة مفتوحة للباحثين والباحثات، للمساهمة في العدد السادس من مجلة تراث، الذي سيحمل عنوان “الثقافة الحسانية: تراث مشترك ورهانات حضارية في فضاء إفريقيا والصحراء”، بإشراف الدكتورة مباركة بلحسن.
وتندرج هذه المبادرة في إطار سعي المركز إلى إعادة طرح موضوع الثقافة الحسانية في قلب النقاش الأكاديمي، من خلال مقاربة شمولية تعبر التخصصات، وتجمع بين الأنثروبولوجيا، والإثنوغرافيا، واللسانيات، والتاريخ، بهدف تفكيك مكوناتها وفهم أبعادها العميقة.
وتصف إشكالية العدد الثقافة الحسانية بأنها ظاهرة ثقافية مركبة، تتقاطع فيها أبعاد لغوية واجتماعية ورمزية وروحية، وتشكّل أحد أغنى أشكال التراث غير المادي في الصحراء الكبرى والفضاء الإفريقي. هذا التراث، بامتداداته الجغرافية الواسعة، يتجاوز حدود الانتماء المحلي الضيق ليصبح عنصرًا أساسيًا في النقاشات المعاصرة حول الهوية وصون الذاكرة الجماعية، خاصة في المناطق التي تتقاطع فيها رهانات الرمزية والسلطة والانتماء.
وفي الفضاء البيضاني الممتد من موريتانيا إلى الجزائر والصحراء الغربية وشمال مالي والنيجر، تشكل الثقافة الحسانية وعاء جامعا، صاغته قرون من التفاعل بين القبائل والتجارة والهجرات والممارسات الدينية والفنية. ويُعتبر الشعر الحساني، أو “لغن” كما يُعرف محليًا، أحد أبرز تعبيراتها، حيث يتسم بما يسمى “الإغراب” اللغوي، أي استخدام معجم قديم مهجور، يمنحه قيمة جمالية وفكرية عالية. وإلى جانب الشعر، تمثل الأمثال والحكايات الشعبية خزّانًا للمعرفة الرمزية، ومرآة للبنية الاجتماعية والقيم الأخلاقية، حيث نجد فيها صورًا للعلاقات الاجتماعية وأدوار المرأة ومفاهيم الحكمة الشعبية.
اللغة الحسانية، وهي المكوّن الأساسي لهذه الثقافة، تشكّل في ذاتها وثيقة تاريخية حية، إذ تمزج بين العربية الفصحى ولهجات صنهاجة وبعض المفردات الإفريقية، في دليل على عمق التفاعل بين المكونات الثقافية عبر الزمن. وهذا التنوع اللغوي يعكس بدوره تنوع البيئات الاجتماعية والسياسية التي احتضنت الثقافة الحسانية، ويمنحها قدرة على التكيف مع تحولات العصر، دون أن تفقد جذورها.
ويحظى حضور المرأة في الثقافة الحسانية بخصوصية لافتة، حيث تظهر في الأمثال والحكايات كفاعل اجتماعي مؤثر، وحكيم قادر على إدارة المواقف وحل النزاعات. وتؤكد ممارسات اجتماعية مثل رفع المهر للمطلقة أو الاحتفال بالطلاق، على استمرار تقاليد صنهاجية قديمة تمنح المرأة وضعًا اعتباريًا مميزًا، وتكسر الصورة النمطية التي تختزل أدوارها في حدود ضيقة.
وتستند هذه الدعوة العلمية إلى رصيد غني من الدراسات السابقة حول المجتمع الحساني، من بينها أعمال بيار بونت التي تناولت النظام الاجتماعي البيضاني، وأبحاث صوفي كاراتيني التي درست التحولات السياسية، وأعمال كورين فورتي حول النوع الاجتماعي والجسد، إضافة إلى مساهمات بول مارتي وفيليب مارشيزين. هذا الإرث البحثي يوفّر قاعدة معرفية صلبة يمكن البناء عليها لتوسيع آفاق النقاش العلمي.
ويقترح العدد محاور متعددة لدراسة الثقافة الحسانية، منها الأنثروبولوجيا الاجتماعية عبر تحليل البنية القبلية وتنظيم المجتمع الحساني، وعلاقة الدين بالسلطة الرمزية وتأثيرها في تشكيل المخيال الجماعي، ودراسة التراث الشفهي بما يشمل الشعر والأمثال والحكايات الشعبية ودورها في مقاومة النسيان الثقافي، وكذلك البحث اللساني في اللهجة الحسانية، في علاقتها بالعربية والأمازيغية، ورصد تحولاتها في ظل العولمة والرقمنة. كما يتطرق العدد إلى موضوع الهوية والتدين من خلال الخطاب الديني الحساني، ودور الزوايا والتصوف والفتوى المحلية في صياغة الوعي الجمعي.
وقد أبرز البيان الصادر عن المركز أن تظاهرة “الجزائر عاصمة الثقافة الحسانية 2025”، كانت محطة كاشفة عن الأهمية التي يوليها الفاعلون الثقافيون والمؤسسات لهذا التراث، باعتباره ليس مجرد ذاكرة محلية مغلقة، بل عنصرًا حيًا في التفاعل الحضاري المغاربي والإفريقي، وأداة لإعادة التفكير في سياسات التنمية الثقافية وآليات الإدماج الاجتماعي، وإنتاج الرمزية في المجتمعات الصحراوية.
وحدد المركز تاريخ 30 سبتمبر المقبل، كآخر أجل لاستقبال المساهمات العلمية، على أن يتم إرسال المقالات عبر منصة ASJP على الرابط: