يروي التاريخ ويبعث الذاكرة من سباتها، ويوقظ في القلوب صدى الصرخة الأولى..هكذا أطلّ عرض “ثمانون صرخة وصدى الخلود” على جمهور قصر الثقافة مفدي زكرياء بالجزائر العاصمة، في أمسية احتفائية خالدة بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة، وتزامنا مع الذكرى الثمانين لمجازر 8 ماي 1945.
العمل الأوبرالي الذي أنتجته جمعية التواصل للموسيقى والمسرح بسطيف، جمع بين عمق النصوص الشعرية وثراء التعبير الركحي، في توليفة درامية وموسيقية مؤثرة، كتبها الشاعر والكاتب جمال الدين الواحدي، وأخرجها المسرحي عيسى جيرار، ليقدم عرضا يروي تاريخ الجزائر من ملاحم الأجداد إلى تطلعات الأجيال الجديدة.
استهلّ العرض من تخوم الصحراء الكبرى، حيث تقف تينهينان، الملكة الأسطورية، رمز الأصالة والعراقة، شامخة بين سطور الشعر وصور الرقص التعبيري، مستدعية ذاكرة الطوارق ومآثرهم، قبل أن ينتقل إلى سرد مقاومات أخرى تجذّرت في الجبال والسفوح، من الأمير عبد القادر إلى لالة فاطمة نسومر، ومن الشيخ آمود إلى أبطال النسيان الذين دُفعوا للموت في جبهات الحرب العالمية الثانية باسم قوة استعمارية ظالمة.
وفي ذروة التوتر الدرامي، يسرد العرض أحداث مجازر 8 ماي 1945، بما حملته من خيانة استعمارية لوعد الحرية، فكان الدم المسفوك في قالمة وخراطة وسطيف نذيرًا لثورة قادمة. تحوّلت الصرخة حينها إلى صدى خالد، ومعها تنطلق شرارة نوفمبر 1954، التي ستغيّر مجرى التاريخ وتُتوّج ببيان أول نوفمبر واسترجاع السيادة بعد سنوات من الكفاح المرير.
ولم يقتصر العرض على الماضي النضالي، بل استشرف الحاضر بتفاؤل، عاكسا أفراح الاستقلال وتحديات المرحلة الراهنة. تناول العمل مشاهد من الجزائر الجديدة، مصوّرا التغيرات الاجتماعية والثقافية، وأحلام الشباب الذي يحمل المشعل من جيل إلى آخر، ساعيًا لبناء وطن متجدّد لا ينسى جذوره.
الجانب الجمالي في العرض لم يكن أقل قوة من مضمونه، إذ توزّعت النصوص بين الفصحى والملحون الشعبي، في مزيج شعري عبقري يترجم الروح الجزائرية في تنوعها العميق. الموسيقى الحية والعروض الكوريغرافية والسينوغرافيا المتقنة أضفت بُعدًا بصريًا ساحرًا على الخشبة، وحوّلت العرض إلى تجربة وجدانية مشحونة بالرمزية والوفاء.
وأدى الأدوار مجموعة من الممثلين الشباب الذين جسّدوا شخصيات تاريخية وشعبية من ذاكرة سطيف وعموم الجزائر، بعفوية وصدق، ما أضفى طابعا واقعيا على العرض، وأعطى صوتا جديدا لذاكرة الجيل القديم عبر حناجر الجيل الجديد.
وفي حديثه لـ “الشعب”، أكّد كاتب العمل جمال الدين الواحدي أن هذا العرض ليس مجرّد سرد فني، بل مشروع ثقافي يحمل رسالة وطنية، حيث قال: “من خلال هذه الأعمال، نسعى إلى إبقاء الذاكرة حية، ونحمي هويتنا بكل تنوعها وعمقها، والأجمل أن نرى رسالتنا تتجسد بالشباب وللشباب، لتتحول أعمالنا إلى ورشات لصقل جيل قادم من المبدعين، وثمانون صرخة وصدى الخلود ليس مجرد عرض فني، بل نداء وجداني خلاصته (لن ننسى)”.
العمل الذي يحمل بصمة ولاية سطيف بكل تفاصيله، من النص إلى الأداء، يشكّل مرآة فنية لروح الجزائر النابضة عبر العصور. كما يعكس التزام الفعل الثقافي المحلي بالمشاركة في بناء الذاكرة الجماعية، وتقديم الفن كوسيلة تربوية وجمالية في آنٍ واحد.
جاء العمل “ثمانون صرخة وصدى الخلود”، لا ليذكّر بالوجع فقط، بل ليقول إن الماضي لا يموت، بل يتحوّل إلى طاقة متجددة، تسكن الأغنية، وتنبض في الخطوة، وتكتب من جديد على الخشبة بصوت لا يشيخ: الجزائر..لا تنسى.