ارتفاع الأسعار يهدّد الأمن الغذائي للدول

تعافي الاقتصاد منوط بتجاوز الجائحة

أسامة إفراح

 عاد الحديث مؤخرا عن موجات رابعة في دول، وخامسة في أخرى، من جائحة كوفيد19، مع ما قد يرافق هذه الموجات من تدابير صحية، قد تصل حدّ الإغلاق الجزئي أو التام، وهو ما يترتب عنه، بكل تأكيد، تداعيات اقتصادية على المستويين الجزئي والكلي. وعلى عكس الآراء العامة التي ترى هذه التداعيات سلبية بالضرورة، يذهب خبيران بصندوق النقد الدولي إلى أن «الإغلاق العام ينطوي على تكاليف قصيرة الأجل لكنه قد يسرِّع التعافي الاقتصادي». بالمقابل، كان البنك الدولي قد حذّر من إمكانية تسبّب ارتفاع أسعار الغذاء وتسارع وتيرة التضخم الكلي في «تفاقم النقص المتزايد في الأمن الغذائي».

قبل حوالي شهر، نشر كل من فرانشيسكو غريغولي وداميانو ساندري، ملخصا لبحثهما حول تأثير جائحة كورونا في الوقت الحقيقي، ومساعي إيجاد التوازن في خضّم الأزمة. وخلص الباحثان إلى أن «أحد الدروس التي ستبقى معنا بعد انحسار جائحة كوفيد19، هو أن أي تعافٍ اقتصادي يتوقف على حل الأزمة الصحية».

الإغلاق سبب الركود

ويوضح البحث الذي أجراه كل من غريغولي وساندري، في آخر عدد من تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي»، أن عمليات الإغلاق العام الحكومية – مع نجاحها في الهدف المقصود، وهو تخفيض عدد الإصابات – «ساهمت إلى حدّ كبير في الركود وكان تأثيرها أكبر على الفئات الضعيفة، كالنساء والشباب». غير أن الركود كان يرجع في معظمه إلى إحجام الناس طوعا عن التفاعلات الاجتماعية خشية الإصابة بالفيروس، يضيف الخبيران، وبالتالي، «فلا يرجّح أن يؤدي إنهاء الإغلاق العام إلى تحقيق دفعة اقتصادية حاسمة ومستمرة إذا ظلت الإصابات مرتفعة، نظرا لأرجحية استمرار التباعد الاجتماعي الطوعي».
ولكن التحليل يخلّص إلى إمكانية تحقيق التوازن بين حماية الصحة العامة والحيلولة دون استمرار الهبوط الاقتصادي لفترة مطولة. حيث يؤكد الخبيران أن «الإغلاق العام ينطوي على تكاليف قصيرة الأجل لكنه قد يسرِّع التعافي الاقتصادي لأنه يخفض من عدد الإصابات ومن ثمة يحد من التباعد الاجتماعي الطوعي». ويقولان: «تعدّ دراسة الآثار متوسطة الأجل لعمليات الإغلاق العام، وكذلك متانة النتائج التي خلصنا إليها مجالين مهمين للبحث في المستقبل مع تتابع تطورات الجائحة وتوافُر مزيد من البيانات».
ويضيف الخبيران: «نحلل الآثار الاقتصادية للإغلاق العام والتباعد الاجتماعي الطوعي باستخدام متغيرات عالية التواتر تعبر عن النشاط الاقتصادي، وهي بيانات التنقل المجتمعي من شركة غوغل والوظائف الخالية المنشورة على الموقع الإلكتروني «Indeed». (...) وعلى مستوى العينة الكاملة المستخدمة في التحليل والتي تضمّ 128 بلد، ساهم كل من الإغلاق العام والتباعد الاجتماعي الطوعي بالتساوي في انخفاض التنقلات أثناء الثلاثة أشهر الأولى من انتشار الوباء في كل بلد. وكانت مساهمة التباعد الاجتماعي الطوعي أكبر في الاقتصادات المتقدمة حيث يستطيع الناس العمل من المنزل بسهولة أكبر أو حتى تَحَمُّل تكلفة التوقف عن العمل اعتمادا على المدخرات الشخصية وإعانات التأمينات الاجتماعية». وعلى العكس من ذلك، فإن الناس في البلدان منخفضة الدخل لا يتاح لهم في الغالب خيار التباعد الاجتماعي الطوعي، «لأنهم لا يملكون السعة المالية اللازمة لتحمل خسارة مؤقتة في الدخل»، تقول الدراسة. «ويقدم تحليل البيانات المتعلقة بإعلانات الوظائف الشاغرة رؤى عميقة مماثلة توضح أن الإغلاقات العامة والتباعد الاجتماعي الطوعي ساهما بالكثير في هبوط الطلب على العمالة».
من جهة أخرى، يعتبر غريغولي وساندري أنه «ينبغي أن تكون المساهمة الكبيرة للتباعد الاجتماعي الطوعي في الحدّ من التنقلات، وإعلانات الوظائف الشاغرة، بمثابة تحذير لصناع السياسات من مغبة إنهاء الإغلاق العام بينما الإصابات بالفيروس لا تزال مرتفعة، على أمل إعطاء دفعة لانطلاقة النشاط الاقتصادي. فمعالجة المخاطر الصحية تبدو هي الشرط الأساسي لتحقيق تعافٍ اقتصادي قوي ومستمر».
ويضيفان: «وفي هذا الصدد، يكشف التحليل أن الإغلاق العام يمكن أن يُحْدِث خفضا كبيرا في عدد الإصابات. وتصبح الآثار قوية بشكل خاص إذا طُبِّق هذا الإغلاق في مرحلة مبكرة من انتشار الوباء في البلد المعني». وحسب البيانات، فإن البلدان التي فرضت الإغلاق العام عندما كانت حالات الإصابة بفيروس كوفيد19 لا تزال قليلة حقّقت نتائج أفضل بكثير في مكافحة الوباء مقارنة بالبلدان التي بدأت التدخل بعد أن أصبح عدد الحالات مرتفعا بالفعل. ويوثِّق الفصل أيضا أن الإغلاق العام يجب أن يكون صارما بدرجة تكفي لكبح الإصابات، ومن ثم يشير إلى أن الإغلاق المحكم والقصير يمكن أن يكون خيارا أفضل من الإجراءات المخففة والمطولة.
كما اعتبر الخبيران أن كلا من الإغلاق العام والتباعد الاجتماعي الطوعي يضعان قيدا على الحركة. وإزاء فعالية الإغلاق العام في تخفيض عدد الإصابات، إلى جانب نتيجة التحليل التي تفيد بأن الإصابات بالفيروس يمكن أن تلحق ضررا جسميا بالنشاط الاقتصادي بسبب التباعد الاجتماعي الطوعي، فهناك ما يدعو إلى إعادة النظر في المقولة السائدة بأن الإغلاق العام ينطوي على مفاضلة بين إنقاذ الأرواح ودعم الاقتصاد. فهذا التوصيف الذي يضع الأرواح في مقابل الأرزاق «يغفِل أن إجراءات الإغلاق العام الفعالة التي تتخذ في مرحلة مبكرة من الوباء قد تكون أسرع في تحقيق التعافي الاقتصادي بما تؤدي إليه من احتواء الفيروس وتقليل التباعد الاجتماعي الطوعي». وهذه المكاسب متوسطة الأجل، يؤكد الخبيران، «توازن تكاليف الإغلاق قصيرة الأجل، بل إنها قد تؤدي إلى آثار كلية إيجابية على الاقتصاد. ويستحق الأمر مزيدا من البحث في هذا الجانب المهم مع تتابع تطورات الأزمة وتوافُر المزيد من البيانات».
للإشارة، فإن فرانشيسكو غريغولي يعمل اقتصاديا في قسم دراسات الاقتصاد العالمي التابع لإدارة البحوث في صندوق النقد الدولي، وسبق له العمل في إدارة شؤون المالية العامة وإدارة نصف الكرة الغربي كما كان باحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. وتركّز أبحاثه على السياسة الاقتصادية الكلية في الوقت الحقيقي ومدى فعاليتها، وديناميكية الاستهلاك والادخار، والتوقعات، وعدم اليقين، وعدم المساواة في توزيع الدخل، وكفاءة الإنفاق.
أما داميانو ساندري فهو نائب رئيس قسم دراسات الاقتصاد العالمي التابع لإدارة البحوث في الصندوق، وكان في السابق اقتصاديا أول مختصا بالبرازيل، كما شارك في بعثات مختلفة أوفدها الصندوق إلى البلدان الأوروبية. وقد حصل ساندري على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة جونز هوبكنز، وله أبحاث منشورة في دوريات أكاديمية كبرى وفي العديد من مطبوعات الصندوق. وهو زميل باحث في مركز بحوث السياسة الاقتصادية (CEPR) ومحرّر مشارك في دورية IMF Economic Review الصادرة عن الصندوق.

تضخّم متزايد

وإذا كان خبيرا صندوق النقد الدولي قد وجدا في الإغلاق العام جانبا إيجابيا على المستوى المتوسط، بسبب أن تعافي الناس يؤدي إلى تعافي الاقتصاد، فإن توقّعات البنك الدولي كانت، قبل ذلك، قد ركزت على النصف المظلم من القمر، على الأقل بالنسبة للدول ضعيفة الدخل.
حيث افترضت تنبؤات شهر جوان الماضي أن الاقتصادات المتقدّمة ستحقق عمليات تطعيم واسعة النطاق لسكانها، وتتمكن من احتواء الجائحة بشكل فعّال بنهاية العام. كما كان من المتوقّع أن تقلص اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية الرئيسية بدرجة كبيرة حالات الإصابة الجديدة بالفيروس. ولكن توقعات آفاق المستقبل يخيم عليها قدر كبير من عدم اليقين، دائما حسب تقرير البنك الدولي، «ومن الأمور التي قد تُقوِّض التعافي أو تُخرِجه عن مساره الصحيح طول أمد الجائحة، أو موجة من إفلاس الشركات، أو الضغوط المالية، أو حتى الاضطرابات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، قد يؤدي النجاح في الإسراع بالقضاء على جائحة كورونا، وزيادة التأثيرات غير المباشرة للنمو في الاقتصادات المتقدمة إلى تحقيق نمو عالمي أكثر حيوية».
ومع ذلك، فمن المحتمل أن تكون الجائحة قد تسبَّبت في نكسات خطيرة للمكاسب الإنمائية، يضيف التقرير، وعلى الرغم من أن نمو نصيب الفرد من الدخل من المتوقع أن يبلغ 4.9% فيما بين اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية هذا العام، فإن التنبؤات أشارت حينها إلى أنه سيكون ثابتا في البلدان منخفضة الدخل.
وبحلول عام 2022، من غير المتوقّع التعويض عن كامل الخسارة في نصيب الفرد من الدخل في نحو ثلثي بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، بما في ذلك ثلاثة أرباع البلدان منخفضة الدخل الهشّة والمتأثرة بالصراع. وبنهاية هذا العام، «من المتوقّع أن يكون نحو 100 مليون شخص قد سقطوا مرة أخرى في براثن الفقر المدقع». وأشد الفئات تضررا من هذه الآثار السلبية هم الفئات الأولى بالرعاية والأكثر احتياجاً، بمعنى النساء والأطفال والعمال غير المهرة وغير الرسميين.
وحسب نفس المصدر، فإن معدل التضخم العالمي زاد مع التعافي الاقتصادي، وكان متوقعا أن يواصل الارتفاع خلال ما تبقى من العام، «لكنه سيظلّ في حدود النطاق المستهدف لمعظم البلدان». وفي اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي ارتفع فيها التضخم عن المستوى المستهدف، قد لا يستلزم هذا الاتجاه استجابة على صعيد السياسة النقدية شريطة أن يكون مؤقتا وأن تظل توقعات التضخم راسخة.
أما ارتفاع تكاليف المواد الغذائية، فتلك حكاية أخرى.. إذ يؤكد ذات التقرير أنه قد يؤدي ارتفاع أسعار الغذاء وتسارع وتيرة التضخم الكلي إلى تفاقم النقص المتزايد في الأمن الغذائي في البلدان منخفضة الدخل. وأوصى التقرير واضعي السياسات بالسعي إلى «ضمان ألا يؤدي تصاعد معدلات التضخم إلى عدم استقرار توقعات التضخم في الأجل الطويل، ومقاومة استخدام أنظمة الدعم أو قيود الأسعار لتخفيف أعباء زيادة أسعار الغذاء، إذ أن هذه الأسعار قد تتسبب في زيادة الديون وخلق مزيد من الضغوط الصعودية على الأسعار العالمية للمنتجات الزراعية». ونشير هنا إلى أن مثل هذه التوصيات قد تكون لها فائدتها في الشقّ الاقتصادي، ولكنها قد تكون منهكة للكاهل في الشقّ الاجتماعي.
من جهة أخرى، يتيح تعافي التجارة العالمية بعد ركود العام الماضي فرصة لاقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية لتعزيز النمو الاقتصادي. وفي المتوسط، تزيد تكاليف التجارة مرة ونصفا في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية عنها في الاقتصادات المتقدمة، وقد يؤدي تخفيضها إلى تعزيز التجارة وتحفيز الاستثمار والنمو، يضيف التقرير.
وركّز البنك الدولي على التوزيع المنصف للقاحات، حيث اعتبر أنه «نظرا لأن مساعدات الإغاثة من الجائحة قريبة على نحو مدهش في الكثير من الأماكن، لكنها بعيدة المنال في أماكن أخرى، فإن اتخاذ إجراءات على مستوى السياسات سيكون ذا أهمية بالغة. ومن الضروري للقضاء على الجائحة تحقيق التوزيع المنصف للقاحات».
وخلص التقرير إلى أن تقديم تخفيف واسع النطاق من الديون سيكون ذا أهمية كبيرة لكثير من البلدان منخفضة الدخل. كما أوصى بضرورة أن يعمل واضعو السياسات لدعم التعافي الاقتصادي من خلال تدابير مالية ونقدية، وفي الوقت ذاته الحرص على حماية الاستقرار المالي، مع اعتماد السياسات نهجا يراعي العواقب بإنعاش رأس المال البشري، وتوسيع إمكانية الحصول على خدمات الترابط الرقمي، والاستثمار في البنية التحتية الخضراء من أجل تعزيز النمو من خلال مسار أخضر وقادر على الصمود وشامل للجميع. وسيتطلب ذلك، حسب ذات المصدر، تنسيق الجهود العالمية للقضاء على الجائحة من خلال عمليات تطعيم واسعة النطاق وقيادة حصيفة على صعيد الاقتصاد الكلي من أجل تفادي الأزمات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19800

العدد 19800

الأربعاء 18 جوان 2025
العدد 19799

العدد 19799

الثلاثاء 17 جوان 2025
العدد 19798

العدد 19798

الإثنين 16 جوان 2025
العدد 19797

العدد 19797

الأحد 15 جوان 2025