مزيج متوازن بين الإنتاج والتخزين والتصدير عبر التسييل أو الأنابيب
الخبير حسني لـ”الشّعب”: الحقول الجزائرية “مخزن طبيعي” للإمدادات
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها قطاع الطاقة العالمي، تتزايد أهمية الغاز الطبيعي كأحد أعمدة مزيج الطاقة في الحاضر والمستقبل، ومعه تتصاعد التحديات المرتبطة بأمن الإمدادات واستقرار الأسواق. وفي هذا السياق، جاء تقرير منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) الأخير ليؤكّد على ضرورة زيادة الاستثمارات في منشآت التخزين الجوفي للغاز الطبيعي، باعتباره خيارًا استراتيجيًا متعدّد الأبعاد، يحقّق أهدافًا اقتصادية وبيئية، ويدعم الانتقال الطاقوي المنشود.
تعتبر تقنية التخزين الجيولوجي للغاز الطبيعي من الركائز الأساسية لضمان أمن الإمدادات، خصوصًا في حالات الانقطاع أو الطلب المفاجئ. وتعتمد هذه التقنية على حقن الغاز في تكوينات جيولوجية تقع تحت سطح الأرض، سواء كانت حقول نفط أو غاز مستنفدة، أو كهوف ملحية، أو طبقات مياه جوفية عميقة. وتُختار هذه المواقع بعناية لقدرتها على الاحتفاظ بالغاز تحت ضغط عالٍ وضمان استقراره على المدى الطويل.
وفق تقرير “أوابك”، فإنّ التخزين الجوفي لم يعد مجّرد حل موسمي لمواجهة ذروة الاستهلاك، بل أصبح عنصرًا مساندًا لدمج مصادر الطاقة المتجدّدة في الشبكة، وضمان استدامة المنظومة الطاقوية. كما أنّ زيادة الاهتمام العالمي بالغاز الطبيعي، باعتباره مصدرًا أقل انبعاثًا للكربون مقارنة بالفحم والنفط، جعلت الاستثمار في البنى التحتية للتخزين الجوفي خيارًا حتميًا.
موارد جزائرية هائلة وبنية تحتية فريدة
بالنسبة للجزائر، التي تعد واحدة من كبار منتجي الغاز في العالم، فإنّ التخزين الجوفي يمثل ورقة إضافية في تعزيز قدراتها على التحكّم في الإمدادات. ومع دخول حقول جديدة بعيدة عن الشبكة الوطنية، يصبح من الممكن إنتاج الفائض وتخزينه في تجاويف جيولوجية، ثمّ ضخه مجدّدا عند ارتفاع الطلب، ممّا يخفّف الضغط عن عمليات الإنتاج في الظروف الاستثنائية.
غير أنّ الخبير في شؤون الطاقة، توفيق حسني، يرى أنّ الوضع الجزائري يتميز بخصوصية، إذ تمتلك البلاد بنية تحتية قوية تجعل من الحقول نفسها “مخزنًا طبيعيًا” للإمدادات، بفضل شبكة واسعة من خطوط الأنابيب، وقدرات تسييل متطورة في أرزيو وسكيكدة. ويشير حساني إلى أنّ عملية تسييل الغاز تقلّل حجمه بشكل كبير، ما يسهّل نقله وتخزينه في حالته السائلة، ويجعل من خطوط الأنابيب وسيلة تشغيل وتخزين آنية تغني في كثير من الأحيان عن التخزين الجوفي الضخم.
التوازن بين التسييل والتصدير
يبرز النموذج الجزائري في إدارة قطاع الغاز الطبيعي كمزيج متوازن بين الإنتاج الفوري، والتخزين الطبيعي في الحقول، والتصدير عبر التسييل أو الأنابيب. ففي الوقت الذي تعتبر فيه توصيات “أوابك” ذات أهمية إستراتيجية، ترى الجزائر أنّ مواصلة الإنتاج الضخم وتطوير البنية التحتية للنقل والتسييل يظل أكثر انسجامًا مع طبيعة مواردها وموقعها في خريطة الطاقة العالمية.
وتؤكّد البيانات الطاقوية الدولية أنّ الجزائر أصبحت ضمن مجموعة السبع الكبار في تصدير الغاز الطبيعي المسال، مع إنتاج سنوي يتجاوز 100 مليار متر مكعب، يوجه منه أكثر من 50 مليار للتصدير، سواء عبر الأنابيب إلى أوروبا أو عبر ناقلات الغاز المسال إلى مختلف الأسواق.
منذ عقود، لعبت الجزائر دورًا محوريًا في تأمين احتياجات السوق الأوروبية من الغاز، وهي اليوم تواصل هذا الدور في ظل سعي أوروبا إلى تنويع مصادرها بعيدًا عن المخاطر الجيوسياسية. وتستفيد الجزائر من موقعها الجغرافي القريب، وشبكة أنابيب استراتيجية تربطها بإيطاليا وإسبانيا، إلى جانب قدرات تسييل تسمح لها بتصدير الغاز المسال إلى موانئ أوروبية وأمريكية وآسيوية.
كما حقّقت الجزائر الاكتفاء الذاتي في إنتاج وقود الكيروسين، وجعلت من مطاراتها الدولية نقاطًا محورية لتزويد الطائرات بالوقود، بما يتماشى مع مكانتها الجيوستراتيجية.
الاكتشافات الجديدة.. رصيد استراتيجي
تعمل الجزائر حاليًا على تطوير الحقول الناضجة وتسريع استغلال الاكتشافات الجديدة، في مسعى لزيادة الإنتاج على المدى القصير والمتوسّط. ومن بين أبرز المشاريع، حقل “باحمو” الذي دخل حيّز الإنتاج بطاقة تصل إلى 5,2 مليار متر مكعب سنويًا. هذه الزيادات في الإنتاج ستسمح بمزيد من المرونة في تلبية الطلب المحلي والخارجي، وتعزّز مكانة الجزائر كمورد موثوق.
وفق الاتحاد الدولي للغاز، بلغت صادرات الجزائر في 2023 نحو 52 مليار متر مكعب، منها 18 مليار متر مكعب من الغاز المسال و34 مليار متر مكعب عبر الأنابيب، وهو ما جعلها تحتل المرتبة السابعة عالميًا في حجم الصادرات.
إلى جانب قوتها الإنتاجية، نجحت الجزائر في جذب كبريات الشركات العالمية للعمل في حقولها، عبر شراكات متنوعة تعزّز تبادل الخبرات والاستثمارات. وتلعب “سوناطراك” دور العمود الفقري لهذه السياسة، عبر إدارة المشاريع الاستراتيجية، وتوسيع الحضور الجزائري في الأسواق العالمية، بما يدعم التنمية الوطنية ويزيد من العوائد الطاقوية.وتندرج الجهود الحالية ضمن التزامات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، الذي يهدف إلى إحداث تحول مزدوج اقتصادي وطاقوي، يخفّف من اعتماد الاقتصاد على المحروقات، ويعزّز المزيج الطاقوي من خلال دمج الطاقات المتجدّدة، مع الحفاظ على الغاز الطبيعي كعنصر أساسي في منظومة الأمن الطاقوي. وتشمل هذه الرؤية أيضًا جوانب الأمن الغذائي والمائي والرّقمي والبيئي والمالي، في إطار مقاربة شاملة للتنمية المستدامة.
ومن منظور أوسع، فإنّ دعوة “أوابك” للاستثمار في التخزين الجوفي للغاز لا تتعارض مع الرؤية الجزائرية، بل تشكّل خيارًا تكميليًا يمكن اللجوء إليه عند الحاجة، خاصة في مواجهة تقلبات السوق أو الطلب الموسمي الحاد. ويرى الخبراء أنّ الجمع بين التخزين الجوفي، وقدرات التسييل، والبنية التحتية الواسعة للنقل، يمنح الجزائر أفضلية تنافسية في السوق العالمية.
الاعتبارات البيئية والاقتصادية
لا يقتصر دور التخزين الجوفي على الجانب الأمني فحسب، بل يمتد ليشمل فوائد بيئية، إذ يساهم في تقليل الحاجة إلى تشغيل محطات الإنتاج بكامل طاقتها طوال العام، ممّا يخفض من الانبعاثات. كما يتيح التخزين شراء الغاز في فترات انخفاض الأسعار، وتخزينه لبيعه لاحقًا بأسعار أعلى، ما يشكل أداة مالية فعالة.
تقرير “أوابك” أشار إلى أنّ السعات التشغيلية لمنشآت التخزين الجوفي عالميًا بلغت 15,44 تريليون قدم مكعب نهاية 2023، مقابل 1,1 تريليون قدم مكعب في عام 2000 بنسبة نمو بلغت 38%. وهذا التطور يعكس الأهمية المتزايدة لهذه التقنية في إدارة أسواق الغاز.
وتمتلك الدول العربية، ومن بينها الجزائر، مقومات جيولوجية واقتصادية تجعلها مؤهلة لبناء منظومات تخزين استراتيجية. فوجود حقول غاز ونفط مستنفدة، ووفرة في الموارد الغازية، وبنى تحتية قريبة من مناطق الطلب، إضافة إلى الموقع الجغرافي المحوري، كلها عوامل تدعم هذا التوجه.
وأوصت “أوابك” بجملة من الخطوات لضمان نجاح مشاريع التخزين، أبرزها تطوير البنية التحتية الجيولوجية والتقنية، تحسين الأطر التشريعية والتنظيمية، تحفيز الاستثمارات، تخفيف المخاطر التمويلية، وإقامة شراكات مع شركات عالمية ذات خبرة، إلى جانب تعزيز تبادل المعرفة بين الدول العربية التي حقّقت إنجازات في هذا المجال.بين الرؤية الإقليمية التي تطرحها “أوابك” والخصوصية الوطنية التي تتميز بها الجزائر، يتشكّل مشهد طاقوي متكامل، يوازن بين الاستجابة السريعة للطلب، وضمان أمن الإمدادات، وتعظيم العوائد الاقتصادية، في ظل التحولات العالمية نحو طاقة أنظف وأكثر استدامة. وبفضل مواردها الغنية، وبنيتها التحتية المتطورة، وشبكة علاقاتها الدولية، تواصل الجزائر ترسيخ موقعها كأحد الأعمدة الأساسية في سوق الغاز العالمي، قادرة على تلبية الاحتياجات الراهنة، ومواكبة تحديات المستقبل.