لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد تقنية “ملهمة” في عالم الرقمنة، بل تحوّل إلى رافعة حقيقية لإعادة تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي، حيث صار معتمدا في كل القطاعات الحيوية من الصناعة إلى التعليم، ومن الصحة إلى الإعلام.. وفي الجزائر، حيث تتجه الأنظار إلى المؤسسات الناشئة باعتبارها محرّكاً واعداً لاقتصاد المعرفة، يبرز سؤال جوهري: كيف ينظر الطلبة الجامعيون، بوصفهم الجيل الأكثر التصاقاً بالمستقبل، إلى هذا التحول، وما موقع الذكاء الاصطناعي في تصوراتهم حول نجاح أو فشل المؤسّسات الناشئة؟
في دراسة ميدانية أجراها الباحثان أحمد جبريط ومحمد الحافظ عيشوش، بجامعة الوادي، تبيّن أنّ النظرة إلى الذكاء الاصطناعي في الأوساط الجامعية، تجمع “بين وعي عميق بفرصه اللامحدودة، وإدراك واضح للتحديات البنيوية لاندماجه الفعلي في محيط المؤسسات الناشئة”، وسجّلت الدراسة أنّ أحد الطلبة لخّص هذه الرؤية قائلاً: “الذكاء الاصطناعي يمثل أفقاً جديداً للمؤسسات الناشئة يمكّنها من المنافسة حتى مع الشركات الكبرى”.. فهذه العبارة تكشف عن وعي بأنّ الذكاء الاصطناعي قادر على إعادة رسم قواعد اللعبة، بحيث لم تعد الشركات العملاقة وحدها تحتكر الأسواق، بل أصبح بإمكان مؤسّسات صغيرة، مدعومة بالتقنيات الذكية، اقتحام قطاعات كانت مغلقة أمامها قبل الثورة التكنولوجية.
ولا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي – في الأوساط الجامعية - من زاوية القدرة التنافسية فقط، ولكن بوصفه شرطاً لازماً للبقاء في عصر الرقمنة، وهو ما سجّلته الدراسة التي نقلت أنّ “نجاح أي مؤسسة ناشئة في عصر الرقمنة مرهون بقدرتها على دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في عملياتها اليومية”. ما يحدّث عن انتقال كبير ينبغي إعداد العدّة له، خاصة مع ما وفّت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من أدوات، وما اتّخذت من إجراءات تكفل انتقالا سلسا، وإحكاما جيدا للمادة التقنية، فالذكاء الاصطناعي يمثل ميزة إضافية وضرورة ملحّة، أشبه بالبنية التحتية نفسها، ومن غير الممكن لمؤسسة ناشئة أن تنشئ نموذجاً للأعمال دون الاعتماد على تحليل البيانات، التنبؤ بالاتجاهات السوقية، أو تصميم حلول ذكية تتجاوب مع حاجيات المستهلك المتغيرة بسرعة.
بخصوص تحليل البيانات، توصّل الباحثان إلى أنّ قدرة الذكاء الاصطناعي على دعم القرار هي القيمة الأبرز، ذلك أنه “يمكّن المؤسسات الناشئة من اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة عبر تحليل كميات ضخمة من البيانات”. وهذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي شريكاً لا غنى عنه في بناء منتجات جديدة، وخدمات مبتكرة، وإستراتيجيات أكثر واقعية في مواجهة منافسة السوق، ما يعني أن القرار الاقتصادي لم يعد رهين الحدس والتجربة وحدهما، بل صار متوقفاً على دقة التحليل والتوقّعات التي توفرها الخوارزميات.
غير أنّ هذه الصورة الطموحة لا تُخفي جوانب معقدة من التحديات، فبعض الطلبة لفتوا الانتباه إلى أنّ المؤسّسات الناشئة في الجزائر والعالم العربي تواجه صعوبة في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، فـ«التحدي الأكبر أمام المؤسّسات الناشئة هو كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بتكلفة معقولة وبكفاءات بشرية مؤهّلة”.
الجامعة بدورها لم تغب عن النقاش، وأعرب عدد من الطلبة عن تفاؤلهم بالخطوات الرائدة التي اتخذتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، خاصة من ناحية حرصها على طبيعة التكوين، فـ«تكوين الطلبة في مجالات الذكاء الاصطناعي سيحدّد ملامح الاقتصاد الرقمي في المستقبل”. والمقتضى أنّ النجاح يكفله المجتمع كاملا، حين يستقرّ مفهوم “الرقمنة” الذي عرف تطورا كبيرا بالجزائر، وصارت كثير من المعاملات تتمّ عن بعد، مثل دفع الفواتير الاعتيادية، أو دفع أثمان المشتريات، وما يدخل في المعاملات اليومية من رسائل، ووثائق، ومثال ذلك موقع وزارة الداخلية الذي يوفّر المعاملات الإدارية جميعا، دون حاجة إلى التنقل.
ولاحظ حبريط وعيشوش أنّ كثيرا من الطلبة الجزائريّين يملكون الوعي اللازم لتشخيص مكامن القوة والضعف، فهم يدركون أن الذكاء الاصطناعي فرصة ذهبية للمؤسّسات الناشئة كي تخترق الأسواق الإفريقية، وتندمج في اقتصاد رقمي عالمي، ويقرّون بأنّ ذلك يتحقّق بفضل سياسة دعم الابتكار، من خلال توفير الحاضنات، وتعزيز تمويل المشاريع الذكية. وما يعكس نضج رؤيتهم، هو أنهم لا يكتفون بوصف الطموح، بل يضعون الإصبع على مكامن الصعوبات المحتملة.
إنّ الجامعيين يشكّلون قوة فكرية يمكن أن تُسهم بجدية في صياغة سياسات الذكاء الاصطناعي بالجزائر. فهم يتحدثون بلسان الجيل المقبل من رواد الأعمال، ولا ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي كآلة مجرّدة، بل كأداة لإعادة هيكلة علاقة المؤسّسة بالسوق، وإعادة تعريف مفهوم النجاح نفسه، فإذا كان النجاح في الماضي يقاس بالقدرة على الإنتاج أو التوسّع الجغرافي، فإنه في الحاضر والمستقبل يُقاس بمدى القدرة على التكيف مع ثورة البيانات والخوارزميات.