توازن استراتيجي بين الاستيراد والإنتاج المحلي

رؤية جزائريــة شاملة للإقـلاع الاقتصادي المتحـرّر مــن التبعيـــة

فضيلة بودريش

اقتحام الأسواق العالمية بمنتجات صناعية وتكنولوجية مبتكرة

 تسير الجزائر بقيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في مسار اقتصادي جديد يهدف إلى التحرّر من التبعية وبناء اقتصاد وطني منتج ومنافس، لا يقتصر على رفع نسب النمو، بل يعيد هيكلة المنظومة الاقتصادية على أسس متينة ترتكز على الفلاحة والصناعة والابتكار، بما يؤسّس لقاعدة تصديرية دائمة ويضمن توازنا استراتيجيا بين الاستيراد والإنتاج المحلي، باعتباره شرطا جوهريا لتحقيق التنمية المستدامة وترسيخ السّيادة الاقتصادية.

 تسير الجزائر بخطى ثابتة نحو إحداث قفزة نوعية في هيكلها الاقتصادي، وفق خطة استشرافية ذكية ترتكز على رؤية شاملة للإقلاع الاقتصادي، تقوم على استغلال كل المقوّمات الوطنية وتطويرها، ورقمنة القطاعات الحيوية، وتفعيل الأداء المؤسّسي على مختلف المستويات.
هذه الرؤية ليست مجرّد شعارات، بل تترجمها سلسلة من الإصلاحات التي مسّت التجارة الخارجية والاستثمارات والحوكمة الاقتصادية. وفي هذا السياق، شدّد رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة، على أنّ الإجراءات المتخذة في مجال التجارة الخارجية لا تعني بأي حال من الأحوال العودة إلى سياسة التقشّف، بل تهدف أساسا إلى ترسيخ توازن دقيق بين الاستيراد والإنتاج المحلي.
فالفكرة الجوهرية هي أن يكون السوق الوطني مفتوحا، لكن بحدود المدروس والضروري، وبما يخدم مصلحة المواطن ويحمي السيادة الاقتصادية. وبعد تحقيق الجزائر لهدف الأمن الغذائي، فإنّ المرحلة المقبلة تتمثل في اقتحام الأسواق العالمية بمنتجات صناعية وتكنولوجية مبتكرة.
ومن النقاط المركزية في هذه الرؤية، أنّ الاستيراد سيظل مفتوحا بالنسبة للمواد غير المتوفرة محليا، حرصا على تلبية حاجيات السوق وتجنّب أي اختلال في العرض. غير أنّ الرهان الحقيقي يكمن في تعزيز الإنتاج الوطني وتشجيع المؤسّسات المحلية على سدّ الفجوة تدريجيا، خصوصا في السلع التي يمكن تصنيعها محليا.
وتسعى الدولة من خلال هذه المقاربة إلى إعادة توجيه الاستيراد نحو الضروريات، مع القضاء على فوضى الاستيراد التي ميّزت مراحل سابقة. فقد تمّ وضع حدّ لاستيراد المنتجات الكمالية، التي كانت تزاحم المنتج المحلي وتعيق تطوره، مقابل اعتماد سياسة ترشيد وتنظيم حقيقيّين انعكسا إيجابا على الميزان التجاري ودعما القدرة الشرائية للمواطن.
كما تعمل هذه السياسة على تحقيق الوفرة في السوق الوطنية لتفادي الندرة والمضاربة، مع اعتماد تسيير ذكي ومرن يوازن بين العرض والطلب. فالرّهان لم يعد تقليص السوق، بل تنظيمها وتحصينها في وجه الاختلالات والممارسات الاحتكارية.
والسياسة الجديدة لضبط الاستيراد ليست مجرّد خطوة ظرفية، بل جزء من مشروع اقتصادي سيادي طويل الأمد، يقوم على ثلاثة محاور رئيسية: حماية السّيادة الاقتصادية عبر الحفاظ على احتياطات العملة الصعبة وتجنّب الارتهان للإملاءات الخارجية، إذ تؤكّد الجزائر اليوم أنها ليست في حاجة إلى المديونية الخارجية بفضل صلابتها المالية، ومحاربة لوبيات الاستيراد التي تسعى لاحتكار السوق وإغراقها بالسلع الأجنبية، وهو ما يضعّف المنافسة ويضرّ بالصناعة الوطنية، وتحسين الميزان التجاري عبر خفض فاتورة الواردات غير الضرورية وتوجيه الموارد نحو الاستثمار في قطاعات إنتاجية قادرة على تنويع الصادرات خارج المحروقات. هذه المحاور تعكس تحوّلا هيكليا يجعل من الإنتاج المحلي محور الإستراتيجية الاقتصادية، ويحوّل الاستيراد من عبء على الاقتصاد إلى أداة مكمّلة له.
وفي موازاة ذلك، تمضي الجزائر نحو رقمنة دقيقة لمعطيات السوق بهدف اتخاذ قرارات اقتصادية مدروسة وفعّالة. الرّقمنة هنا ليست مجرّد أداة تكنولوجية، بل وسيلة لضبط آليات العرض والطلب، وتحديد فجوات الإنتاج، وتوجيه الاستيراد إلى ما يحتاجه الاقتصاد فعلا. وتؤكّد المؤشّرات الاقتصادية أنّ الجزائر، خلال سنتين فقط، ستكون في مصاف الدول الناشئة، بفضل تسارع وتيرة الاستثمارات الأجنبية وبناء شراكات كبرى في قطاعات الفلاحة والصناعة والتكنولوجيا. هذه الديناميكية تُسهم في تلبية الطلب المحلي وتدعم قدرات التصدير نحو الأسواق الخارجية، ما يعزّز مناعة الاقتصاد الوطني.
ومن السّمات البارزة لهذا التحول أنّ القطاع الخاص بات شريكا أساسيا في بناء الاقتصاد الجديد، إلى جانب القطاع العام. فالمؤسّسات الجزائرية الخاصة أثبتت قدرتها على المنافسة من خلال جودة منتجاتها وتكلفتها المنخفضة وقربها الجغرافي من الأسواق الإفريقية والأوروبية. وقد تجلّى ذلك بوضوح في معرض التجارة البينية الإفريقية الرابع، الذي احتضنته الجزائر في سبتمبر، حيث تمكّنت المؤسّسات الجزائرية من توقيع عقود بمبالغ معتبرة، ما يؤكّد أنها باتت لاعبا اقتصاديا قادرا على اقتحام الأسواق العالمية.
ما تقوم به الجزائر اليوم يتجاوز بكثير النقاش التقليدي حول أرقام الاستيراد وحجم الفواتير. نحن أمام رؤية شاملة لإقلاع اقتصادي حقيقي، تجعل من التوازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي خيارا استراتيجيا لحماية السّيادة وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية. وبينما كان الاستيراد في السابق مؤشّرا على التبعية والضعف البنيوي، فإنه يتحول اليوم إلى أداة ضمن مشروع سيادي متكامل، يهدف إلى بناء اقتصاد منتج، متنوّع، ومنفتح عند الحاجة، لكنه محصّن ضدّ الاستنزاف والاختلالات.
وفي المحصلة، فإنّ تحقيق هذا التوازن الاستراتيجي لا يعني فقط تلبية حاجيات السوق الوطنية أو دعم القدرة الشرائية، بل يضمن كذلك كرامة المواطن واستقلالية القرار الوطني، ويجعل من الاقتصاد الجزائري لاعبا واثقا في الساحة الدولية. هذه هي المعادلة التي تسعى الجزائر الجديدة إلى ترسيخها: اقتصاد منتج، سوق منظّم، وسيادة لا تقبل المساومة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19887

العدد 19887

الأحد 28 سبتمبر 2025
العدد 19886

العدد 19886

السبت 27 سبتمبر 2025
العدد 19885

العدد 19885

الخميس 25 سبتمبر 2025
العدد 19884

العدد 19884

الأربعاء 24 سبتمبر 2025