صرارمــة لــ”الشّعـب” :التجارة الخارجيــة صمّــام أمــان الاقتصـاد الوطني
تسعى الجزائر المنتصرة إلى تطوير صناعة محلية قوية للحدّ من الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وترشيد مسالكه التسويقية، وتقليل توريد السلع الكمالية التي تتسبّب في استنزاف العملة الصعبة من الخزينة العمومية، وارتفاع قيمة الدولار واليورو أمام الدينار.
سمحت سياسة ترشيد الاستيراد، التي انتهجها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، بتنويع موارد الاقتصاد الوطني خارج قطاع المحروقات، وتوسيع مجالات الاستثمار الداخلي، بما في ذلك تنفيذ مشاريع بالشراكة مع متعاملين اقتصاديّين ومستثمرين أجانب، ما مكّن من توفير مئات الآلاف من مناصب الشغل، واقتصاد ملايير الدولارات كانت تُوجَّه سابقًا لاستيراد مواد، كانت البلاد قادرة على إنتاجها بكثافة وجودة وتنافسية.
كما عرف المنتوج الجزائري غير النفطي حديث التصنيع، اهتمامًا وطلبًا متزايدًا من عدة دول أوربية وإفريقية وآسيوية وحتى أمريكية، في ضوء الوثبة الاقتصادية الكبرى المشهودة التي سجّلتها الجمهورية بين 2020 و2025، من طرف مؤسّسات مالية عالمية وإقليمية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليّين، وبنك الاستيراد والتصدير الإفريقي، وهذا في كثير من المواد المُكتفَى منها ذاتيًا مثل الحديد والإسمنت والفوسفات وبعض السلع الغذائية والزراعية، بعد أن كانت محلّ استيراد للاستهلاك الداخلي قبل 2019.
إلى ذلك، تعمل السلطات العليا عن كثبٍ على استكمال إنشاء الهيئة الجزائرية للاستيراد والهيئة الجزائرية للتصدير، بإشراف وتوجيهات من رئيس الجمهورية، باعتبارهما آليتين محوريّتين لتنظيم وضبط عمليات التجارة الخارجية، ووقف الممارسات والانحرافات البائدة التي شابت هذا المجال بوقتٍ سابقٍ.
وخلال اللقاء الإعلامي الدوري الأخير، الذي أجراه مع ممثلي وسائل الإعلام الوطنية، أكّد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، أنّ السياسة التي تتّبعها الجزائر اليوم هدفها خلق توازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي، من أجل تلبية الحاجيات الوطنية من مختلف المنتجات، مشيرًا إلى أنّ المسعى لا علاقة له بالتقشّف.
وأوضح الرّئيس تبون أنّ الجزائر كانت تشهد في الماضي فوضى في الاستيراد، تسبّبت في استنزاف الخزينة العمومية من العملة الصعبة بدون أن يتحسّن الوضع، مبرزًا أنّ الاستيراد ضروري لسدّ الحاجيات التي لا يلبيها الإنتاج الوطني، وأنّ هذا التوازن ليس سهلا، كونه يتطلّب مستوى دقيقًا من الرّقمنة.
ونوّه في هذا الخصوص، بأهمية الاعتماد على الإنتاج الداخلي، وعدم الارتهان للاستيراد من الخارج، وذلك من أجل تعزيز السّيادة الوطنية.
الاستيراد والتصدير بين الطموح والتحديات
في هذا الصدد، يؤكّد أستاذ العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير بجامعة الشهيد العربي بن مهيدي، في ولاية أم البواقي، البروفيسور صرارمة عبد الوحيد، أنّ الهيئة الجزائرية للاستيراد ترمي إلى ضبط السوق وحماية الإنتاج الوطني، والهيئة الجزائرية للصادرات تهدف إلى فتح آفاق جديدة في الأسواق العالمية، حيث تقف الجزائر اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة سياستها التجارية.
وأوضح البروفيسور صرارمة عبد الوحيد، في تصريح أدلى به لـ«الشّعب”، أنّ نجاح الهيئتين المذكورتين سيعتمد على قدرة الفاعلين الاقتصاديّين على التكيّف مع المعايير الدولية، وبين الطموح والواقع، يبقى الأمل أن تتحول هذه المؤسّسات إلى رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية المستدامة في البلاد.
واعتبر صرارمة إنشاء هاتين الهيئتين خطوة مؤسّساتية تعكس إدراك الدولة الجزائرية لأهمية إصلاح منظومة تجارتها الخارجية، بهدف ضبط تدفّقات السلع الأجنبية، وتقليص التبعية للمحروقات عبر تحفيز وتنويع الإنتاج المحلي، ومنه دعم موقع الجزائر كلاعب اقتصادي إقليمي ودولي.
ضبط الاستيراد لمواجهة الفوضى
أفاد البروفسيور عبد الوحيد، أنّ الهيئة الجزائرية للاستيراد تعد أداة تنظيمية جديدة، ستُوكَّل لها مهمة وضع قواعد شفافة لعمليات الاستيراد من الخارج، ومراقبة السوق الداخلية بدقة، بما يضمن التوازن بين تلبية حاجيات المستهلك وحماية الإنتاج الوطني.
وستضطلع الهيئة ذاتها، بحسبه، بدور مركز إحصائي شامل يوفر قاعدة بيانات دقيقة لصنّاع القرار، ما سيجعلها حلقة وصل محورية بين رئاسة الجمهورية والوزارة الأولى، والوزارات المعنية، والجمارك والبنوك.
ورأى محدثنا، أنّ مستقبل الهيئة يتوقّف على مدى قدرتها على فرض الشفافية، واعتماد الرّقمنة كخيار استراتيجي لا رجعة فيه، وتوحيد الجهود بين جميع الفاعلين لتقليص العراقيل، التي أضرّت لسنوات بمصداقية السوق الجزائرية.
رافعة جديدة لتشجيع الصادرات خارج المحروقات
بالتوازي مع ذلك، لفت البروفيسور صرارمة عبد الوحيد، إلى أنّ الدولة أنشأت الهيئة الجزائرية للصادرات، التي وُضعت في قلب الاستراتيجية الوطنية لتنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على المحروقات.
وتتمثل مهامها الأساسية، كما شرح، في اكتشاف فرص جديدة للتصدير، وجمع وتحليل المعلومات حول الأسواق الدولية، وإعداد دراسات دورية لتوجيه الصادرات، وتوحيد المعايير والمواصفات لضمان مطابقة المنتجات الجزائرية لمتطلّبات الأسواق العالمية.
كما تهدف الهيئة إلى إطلاق العلامة التجارية “صنع في الجزائر” لتعزيز صورة المنتج الوطني، وتنظيم المشاركة الجزائرية في المعارض الدولية، وتقديم الدعم اللوجستي والتسويقي للمؤسّسات المصدّرة، خاصة الصغيرة والمتوسّطة، غير أنّ الطريق لن يكون سهلا أمامها، حيث تواجهها تحديات جوهرية مثل حداثة ولوج المنتجات الجزائرية للأسواق الأجنبية، وغياب استراتيجية تسويق دولية واضحة، والعراقيل اللوجستية المتعلقة بالنقل البحري والجوّي، ناهيك عن محدودية ونقص الكفاءات في مجالي التسويق والتفاوض التجاري العالميّين، يذكر الباحث.
وتابع: “إنشاء هاتين الهيئتين يعكس وعيا رسميا بأنّ التجارة الخارجية تمثل صمّام أمانٍ للاقتصاد الوطني، في ظلّ الأزمات الطاقوية والتحديات العالمية. بيد أنّ التجربة الدولية تظهر أنّ مجرّد إنشاء مؤسّسات جديدة لا يكفي، بل يجب أن يُرفق ذلك بإصلاح شامل للبيئة الاقتصادية على غرار رقمنة المعاملات، وتحسين البنية التحتية اللوجستية، ومواصلة إصلاح المنظومة البنكية وتكييفها مع التعاملات المالية الدولية”.
كما أنّ تعزيز استقلالية هذه الهيئات وتحريرها من ثقل البيروقراطية، يمثل شرطا أساسيا لتحويلها إلى أدوات فعّالة في الميدان، ليبقى الرهان الحقيقي يتعلّق بقدرة الجزائر على تحويل هذه المبادرات، من مجرّد “هيئات جديدة” إلى محرّكات قوية لاقتصاد متنوّع ومنفتح على العالم، يضيف البروفيسور صرارمة عبد الوحيد.