حمايــة الاقتصــاد الوطني دون اللجوء إلـى سياسـات ضاغطــــة تقشفيــة
حمايـة قــدرة المواطـن الشرائيــة وعـدم المسـاس بحقوقــه الأساسيــة
التوازن بين الاستيراد والإنتاج المحلـي.. خيــار استراتيجي للتنميـة الشاملـــة
بلادنــا لا يمكنهـا أن تنغلـق علـى نفسهــا ولا أن تفتـح أبوابهـا علــى مصراعيهـا أمـام الاستــيراد العشوائـي
أكّد الخبير الاقتصادي بوشيخي بوحوص لـ«الشّعب”، أنّ تصريح الرّئيس عبد المجيد تبون، بخصوص ضرورة خلق توازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي، يعكس توجّها استراتيجيا عميقا يراد منه إعادة صياغة المنظومة الاقتصادية الوطنية، وفق قواعد أكثر عقلانية وواقعية، مشيرا إلى أنّ هذا التوجّه لم يأت من فراغ، بل هو استجابة لتجارب مرّت بها الجزائر في مراحل سابقة، حيث أدّت الهيمنة المطلقة للاستيراد إلى إضعاف القدرة الإنتاجية الوطنية، وأوقعت السوق في فوضى المضاربة والاحتكار.
يرى الخبير بوشيخي بوحوص أنّ الرّئيس يرسّخ قاعدة مهمة، وهي أنّ الدولة قادرة على حماية الاقتصاد الوطني دون المساس بحقوق المواطن أو اللّجوء إلى سياسات ضاغطة تقشّفية، من خلال عقلنة النفقات وتحفيز الإنتاج المحلي بما يخدم جميع الأطراف.
وأوضح أنّ ما قاله الرئيس تبون يشكّل - في جوهره - إعلانا واضحا لمرحلة جديدة من التسيير الاقتصادي، مرحلة لا تقوم على التضييق على المواطنين عبر سياسات تقشّفية قاسية، وإنما على إعادة تنظيم السوق الوطنية بما يضمن التوازن بين تلبية حاجيات المستهلك وتشجيع المنتج المحلي، وأضاف أنّ هذا التصور يعكس وعيا بأنّ الجزائر لا يمكنها أن تنغلق على نفسها ولا أن تفتح أبوابها على مصراعيها أمام الاستيراد العشوائي، بل عليها أن تسلك طريقا وسطا يقوم على عقلنة النفقات وحماية السّيادة الاقتصادية.
وأكّد بوشيخي أنّ الحديث عن “التوازن” يحمل في طياته بعدا اقتصاديا وآخر اجتماعيا، فمن الناحية الاقتصادية، المقصود هو تقليص فاتورة الاستيراد التي تثقل كاهل الخزينة العمومية، وتوجيه الموارد نحو دعم قطاعات منتجة كالزراعة والصناعة والتحويل.
أما من الناحية الاجتماعية، فإنّ الهدف الأساسي هو ضمان وفرة المواد الأساسية في الأسواق وعدم إخضاع المواطن لضغوط ندرة السلع أو ارتفاع الأسعار، موضّحا أنّ الفرق الجوهري بين التوازن والتقشّف، أنّ الأول يضمن استمرار دورة الإنتاج والاستهلاك بشكل صحي، بينما الثاني قد يؤدي إلى انكماش اقتصادي يضرّ بالجميع.
وأشار الخبير إلى أنّ الرئيس تبون، أراد من خلال هذا الطرح طمأنة المواطن الجزائري بأنّ الدولة ماضية في حماية قدرته الشرائية وعدم المساس بحقوقه الأساسية، فالخيار ليس غلق الأبواب في وجه السلع ولا التضييق على المستوردين، وإنما ترشيد العمليات التجارية، بحيث لا يتم استيراد إلّا ما هو ضروري ولا يُترك الباب مفتوحا أمام تضييع العملة الصعبة في مواد يمكن إنتاجها محليا.
ووفق الخبير، فإنّ هذا التوجّه سيمكّن في الأمد المتوسّط من تحقيق نوع من الاكتفاء في المنتجات الأساسية، بما يحفظ الاستقرار الاقتصادي ويعزّز ثقة المواطن في دولته.
بـــين التجربــــة والتحديـات
في السياق، أوضح الخبير الاقتصادي أنه الجزائر عاشت في سنوات سابقة تجارب مريرة بسبب الاعتماد المفرط على الاستيراد، حيث تحوّلت السوق الوطنية إلى فضاء مفتوح للمنتجات الأجنبية على حساب المنتوج المحلي، ما جعل المزارعين والصناعيّين والتجار الصغار يعانون من تراجع القدرة التنافسية، وأشار إلى أنّ هذا الوضع كرّس ثقافة استهلاكية، تعتمد على ريع النفط والغاز لتمويل فاتورة استيراد ضخمة تجاوزت، في بعض السنوات، خمسين مليار دولار، وهو ما اعتبره نزيفا خطيرا لاقتصاد بلد يسعى إلى التحرّر من التبعية، وأضاف أنّ الرئيس تبون، حين تحدث عن التوازن، واستحضر التجارب الماضية وحاول تجنيب الجزائر أخطار تكرارها، كالأزمة العالمية الأخيرة، سواء تلك المرتبطة بجائحة كورونا أو تداعيات الحرب في أوكرانيا، أظهرت أنّ الدول التي لا تملك قاعدة إنتاجية محلية قوية، تجد نفسها في وضع هشّ أمام الصدمات الخارجية.
وأكّد بوشيخي أنّ الجزائر، بحكم إمكاناتها الزراعية والمعدنية والبشرية، ليست مضطرّة لأن تكون رهينة الاستيراد، بل يمكنها أن تحقّق استقلالها الغذائي والصناعي إذا أحسنت تنظيم سياساتها.
ويرى الخبير أنّ حديث الرئيس تبون يأتي في سياق عالمي صعب يتميّز بتقلّب أسعار الطاقة والمواد الأولية، وبتزايد النزعة الحمائية لدى الدول الكبرى، وهو ما يجعل من تعزيز الإنتاج المحلي خيارا استراتيجيا لا بديل عنه.
ووفق الخبير، فإنّ التوازن المطلوب لا يعني الانغلاق، بل على العكس، هو انفتاح مدروس يقوم على استيراد ما لا يمكن إنتاجه محليا، وعلى تصدير الفائض من الإنتاج الوطني، ما يخلق دورة اقتصادية متوازنة ومستدامة.
وأكّد بوحوص أنّ هذا التوجه يحمل أيضا بعدا سياديا، إذ لا يمكن لبلد يسعى إلى حماية استقلاله السياسي أن يبقى مرتهنا غذائيا وصناعيا للخارج. فالاستقلال الاقتصادي - يقول محدثنا - هو القاعدة التي تبنى عليها كل أشكال السيادة الأخرى، ولذلك فإنّ تصريح الرئيس يعكس وعيا استراتيجيا، بأنّ القوة الحقيقية للدولة تكمن في قدرتها على إنتاج حاجياتها الأساسية بنفسها.
انعكاســات مباشـرة علــى الاقتصــاد والمجتمـــع
أوضح الخبير أنّ انعكاسات هذا التوازن ستكون ملموسة على عدة مستويات. فعلى المستوى الاقتصادي، سيؤدي إلى تقليص الضغط على احتياطي الصرف من خلال خفض فاتورة الاستيراد، وهو ما يتيح توجيه الموارد المالية نحو الاستثمار في قطاعات إنتاجية واعدة، كما أنّ تشجيع الإنتاج المحلي سيخلق فرص عمل جديدة، ويدفع بالمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة إلى لعب دور أكبر في الدورة الاقتصادية.
وأشار إلى أنّ تعزيز الإنتاج المحلي سيسمح أيضا بتحسين ميزان المدفوعات، وتخفيض العجز التجاري، ما ينعكس إيجابا على قيمة الدينار واستقرار السوق النقدية.
ووفق الخبير، فإنّ هذا الاستقرار المالي سيكون له أثر مباشر على حياة المواطن، من خلال استقرار الأسعار وقدرته على التخطيط لمصاريفه اليومية دون القلق من تقلّبات حادة.
وأكّد أنّ التوازن الذي دعا إليه الرئيس تبون لا يقتصر على البعد الاقتصادي فقط، بل يتعداه إلى بعد اجتماعي مهمّ يتمثل في حماية الفئات الهشّة، فالسياسات التقشّفية عادة ما تضرب الطبقات المتوسطة والضعيفة، وتؤدي إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، بينما السياسة التي تقوم على التوازن تسمح بالحفاظ على شبكة الحماية الاجتماعية مع ترشيد النفقات العمومية. وأضاف أنّ الجزائر، بفضل احتياطاتها من الطاقة وإمكاناتها الزراعية، قادرة على تجسيد هذا النموذج، إذا واصلت الاستثمار في البنية التحتية وفي العنصر البشري.
إصلاحـات عميقـة..
في السياق، أشار بوشيخي بوحوص إلى أنّ نجاح هذا التوجّه يتطلّب جملة من الإصلاحات المرافقة، من بينها تسهيل مناخ الاستثمار المحلي، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتحسين جودة المنتوج الوطني ليكون قادرا على منافسة المستورد، كما شدّد على ضرورة مواصلة مكافحة البيروقراطية والفساد، اللذين كانا من أكبر العوائق أمام تطور الاقتصاد الوطني.
وأوضح الخبير أنه الرئيس تبون بطرحه لهذا التصور، يرسل أيضا رسالة إلى رجال الأعمال والمستثمرين الجزائريّين، بأنّ الدولة تفتح الباب أمامهم، وتضع ثقتها في قدراتهم، شريطة الالتزام بالشفافية وبالمساهمة الفعلية في خدمة الاقتصاد الوطني. وأكّد أنّ هذا التوجه يتماشى مع سياسة الجزائر الرامية إلى الاندماج في سلاسل الإنتاج الإقليمية والدولية، لكن من موقع قوة واستقلالية.
ووفق المتحدث، فإنّ الجزائر ستتحول - في السنوات القادمة - إلى قطب اقتصادي مهمّ في المنطقة، مع تحقيق هذا التوازن، خاصة وأنها تملك سوقا داخلية واسعة تفوق 45 مليون مستهلك، إلى جانب موارد طبيعية هائلة وموقع جغرافي استراتيجي يربط بين إفريقيا وأوروبا، وأضاف أنّ تعزيز الإنتاج المحلي لن يساهم فقط في تلبية حاجيات السوق الداخلية، بل سيمكّن من خلق فائض قابل للتصدير نحو الأسواق المجاورة، ما يفتح آفاقا واسعة للنمو.
وأكّد الخبير أنّ الرهان الحقيقي اليوم هو بناء اقتصاد إنتاجي متنوع، لا يعتمد فقط على المحروقات، وإنما على الزراعة والصناعة والخدمات والتكنولوجيات الحديثة، فالتوازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي سيكون المدخل إلى هذا التنويع، إذ سيسمح بتقليص التبعية للنفط والغاز، ويفتح الباب أمام بناء اقتصاد أكثر صلابة واستقرارا.
وبرأي بوحوص، فإنّ ما قاله الرئيس تبون لا يجب أن يُفهم في إطار ظرفي أو كشعار سياسي عابر، بل هو إعلان عن رؤية استراتيجية ترمي إلى إرساء قواعد جديدة للاقتصاد الوطني، وأنّ نجاح هذه الرؤية يتطلّب تضافر جهود الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لأنّ بناء اقتصاد متوازن ومستقلّ هو مسؤولية جماعية.
وسيكون المواطن -يقول الخبير- المستفيد الأول من هذه السياسات، من خلال وفرة المواد الأساسية، استقرار الأسعار، وتوفير فرص عمل تحفظ كرامته، وأنّ الجزائر، إذا واصلت السير في هذا الطريق، ستتمكّن من تحقيق نقلة نوعية في اقتصادها، وتجسيد ما أسماه الرئيس تبون بـ«التوازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي”، كخيار استراتيجي يؤسّس لمرحلة جديدة من التنمية الشاملة.