من الورشات الشعبية إلى الحملات الكبرى

برامج تشجير مليونية تعيد الحياة لمحيطات «فحّمتها» الحرائق

زهراء. ب

تتعرض الثورة الغابية في الجزائر سنويا، إلى تهديدات بالجملة، بسبب سلسلة حرائق أصبحت تندلع في فصل الخريف، بعد أن كانت تقترن بفصل الصيف وباتت تلتهم حتى الثروة الحيوانية وتهدد حياة عشرات السكان القاطنين قربها، مخلفة كوارث إيكولوجية لا مثيل لها، وخسائر فادحة للإنسان والاقتصاد، ما بات يفرض تشديد العقوبات ضد المعتدين على هذه الفضاءات، بمراجعة قانون الغابات، الذي لم يحيّـن منذ 36 سنة، وتدعيم صفوف حراس الغابات بعيون مراقبة جديدة، تكون سندا ودعما لـ5500 حراجي يعملون على مساحة 238 مليون هكتار بعد إسناد مهمة أخرى لهم تتعلق بالتنمية الريفية.
خلفت حرائق يومي 6 و7 نوفمبر الجاري، حالة رعب وسط آلاف العائلات الجزائرية، بعد أن وصلت ألسنة اللهب التي امتدت، دون سابق إنذار، للمحيطات الغابية والأحراش، إلى بيوت وقرى في ليلة هادئة، ورياح عاتية، فتحول محيطها فجأة إلى دمار وخراب.
ولعل ما ضاعف الصدمة، اندلاع سلسلة حرائق في عدة ولايات وفي نفس التوقيت تقريبا، ما طرح ألف سؤال عن حقيقة وقوف العامل الطبيعي وراء الحرائق، بعد أن ربطت التصريحات الأولى للمسؤولين الحوادث المرعبة المتفرقة بهبوب «رياح السيروكو» يومها، ناهيك عن حالة الجفاف الناجمة عن تأخر تساقط أمطار الخريف، وهي بالنسبة للمسؤولين عوامل مساعدة على اندلاع الحرائق بالغابات.
لكن بالنسبة للمدير العام للغابات علي محمودي، في تصريح لـ»الشعب ويكاند»، لم يستبعد أن يكون وراء هذه الجرائم «يد الإنسان»، لأنه لاندلاع الحريق لابد من توفر ثلاثة عوامل هي، المادة المعرضة للحريق أو الأشجار وهي متوفرة، إذ أن أغلب الأصناف الموجودة في المنطقة الغربية للبلاد هي قابلة للاحتراق بسرعة. الأوكسجين متوفر. الشرارة وهذه بيد الإنسان. لذلك الحرائق وراءها يد الإنسان، لكن لا يمكننا القول إنها كانت متعمّدة أم لا، وهذه مهمة المصالح المختصة التي يمكنها تحديد ذلك عن طريق التحريات.
ويعتقد أنه «من يملك النية لارتكاب مثل هذه الجرائم في المحيط الغابي، يختار اليوم التي تتوفر فيه كل العوامل المؤدية للحريق، حتى تظهر وكأنها ليست بفعل فاعل، أو بسبب عوامل طبيعية وحتى تكون المساحات التي تتلف كبيرة، ومن كانت له نية إلحاق الخسائر في تيبازة، والذي خطط لنفس الأمر في تلمسان يملكان تفكيرا واحدا».
وتشبه حرائق يومي 6 و7 نوفمبر الجاري -يضيف محمودي- حرائق يومي 28 و29 نوفمبر 2012، التي أتلفت بولاية بجاية وحدها 3 آلاف هكتار، وتضررت منها 10 ولايات أخرى وسجلت خسائر كبيرة.
بالنسبة ليومي 6 و7 نوفمبر الجاري، تم تسجيل 52 حريقا في 11 ولاية، تصدرت تلمسان قائمة الولايات المتضررة بـ15 حريقا أتلفت 200 هكتار، البليدة 9 حرائق أتلفت 17 هكتارا، سيدي بلعباس 6 حرائق أتلفت 80 هكتارا، وهران 4 حرائق أتلفت 426,5 هكتار، الشلف 4 حرائق لم يتم بعد تحديد حجم الخسائر، تيزي وزو 4 حرائق أتلفت 24 هكتارا، عين تموشنت بحريقين أتلفا 20 هكتارا، حريقين بسيدي بلعباس أتلفا 500 هكتار، خنشلة حريقين لم تحدد الخسائر 100م مربع، مستغانم أتلف 0.8 هكتار، سوق أهراس حريق واحد أتلف نصف هكتار.
وبلغت الخسائر المسجلة بسبب الحرائق، التي اندلعت بين 1 جوان و31 أكتوبر 2020، أي في ظرف 4 أشهر، 42 ألفا و340 هكتار جراء 3292 حريق، يمكن تقسيمها إلى غابات 15578 هكتار، ما يعادل 37 بالمائة، الأدغال 13 ألفا و552 هكتار، والأحراش 13199 هكتار، بمعدل 22 حريقا في اليوم وكل حريق أتلف ما يقارب 12.86 هكتارا من المحيطات الغابية.
وبالنسبة لمحمودي، حجم الخطر لا يمكن أن يحدد، لأن أصغر شجرة أتلفت لديها 60 سنة؛ معنى هذا أننا يجب أن نصبر 60 سنة أخرى لتجديد الغابة، فضلا عن الكوارث التي لحقت بالنظام الايكولوجي، من تلوث الهواء ونقص الأوكسجين وهلاك الحيوانات وتجفيف المنابع المائية وانجراف التربة نحو السدود ما يقلص قدرة استيعابها.
مواجهة «الأرض المحروقة»
حاربت الدولة الجزائرية سياسة الأرض المحروقة، التي نفذتها فرنسا الإستعمارية، منذ السنوات الأولى للاستقلال، عن طريق حملات تشجير مكثفة، لاسترجاع الثروة الغابية المنهوبة، وإعادة التوازن الإيكولوجي.
وكانت الثروة الغابية في الجزائر تقدر قبل الاستعمار الفرنسي بـ5.5 ملايين هكتار، وبعد الاستقلال تقلصت بـ1.5 مليون هكتار، ما يعادل هكتار لكل شهيد، وهو ما جعل الدولة الجزائرية تقوم بمجهودات معتبرة مباشرة بعد الاستقلال من خلال الورشات الشعبية للتشجير، وحملات التشجير الكبرى في الثمانينيات. وفي 2000 تم إطلاق البرنامج الوطني للتشجير، الهدف منه غرس مليون و247 ألف هكتار، إلى غاية 2018، تم غرس 880 ألف هكتار، وانخفضت وتيرة الإنجاز بعد هذا التاريخ بسبب الأزمة الاقتصادية واعتماد سياسة التقشف.
في العام الماضي، فقد قررت الدولة، يقول محمودي، إطلاق برنامج «لكل مواطن شجرة» يهدف لغرس 43 مليون شجرة. في 2019 تم غرس 11.5 مليون شجيرة، وهذه السنة نكمل الباقي أي ما يعادل 21.5 مليون شجيرة.
ولتجسيد هذا الهدف تم تسطير 3 برامج، البرنامج الأول من خلال صفقتين بالتراضي استفاد منهما مجمع الهندسة الريفية، إحداهما تتضمن عدة عمليات تشمل 801 بلدية، وأكثر من 1670 قرية، بـ48 ولاية، لغرس 11 ألفا و89 ألف هكتار، فتح المسالك وإعادة تهيئة 2147 كلم، بالإضافة إلى محاربة الانجراف، وتخزين المياه، وتهيئة السواقي، بناء الصهاريج، وحفر الآبار الرعوية.
ويهدف البرنامج الثاني، الذي يحمل عنوان «المخطط الوطني للتشجير»، إلى غرس 43 مليون شجيرة، تتولى القطاعات الأخرى غرس 17.7 مليون شجيرة، وقطاع الفلاحة 25.3 مليون شجيرة، ومنذ 25 أكتوبر 2020 إلى غاية 4 نوفمبر تم غرس 290 ألف شجيرة.
استبدال الأصناف القابلة للاحتراق
اعتمدت الجزائر غرس أصناف من الأشجار، أثبتت دراسات المكتب الوطني للدراسات الخاصة بالتنمية الريفية «بنيدار»، عدم جدواها وملاءمتها للمحيط، خاصة تلك المستعملة في تدعيم السد الأخضر «المشروع العملاق» لوقف زحف رمال الجنوب نحو سهول متيجة والشمال والتي تركزت في الصنوبر الحلبي، وأنواع أخرى تتعرض بسهولة للاحتراق والأمراض النباتية.
وحددت دراسة «بنيدار»، مثلما ذكر المدير العام للغابات، الأنواع الملائمة لكل منطقة، وللسد الأخضر حتى يشارك في الاقتصاد الوطني، منها الأشجار المثمرة والمقاومة للجفاف. وقد شرعت بعض المناطق في غراستها بالفضاءات الغابية التي خصصت محيطات لاستصلاح الأراضي، حوالي 9800 هكتار من ضمن 77 محيطا ستوضع تحت تصرف الشباب لتطوير الأشجار المثمرة المقاومة للجفاف، وقد تم توزيع 12 ألف هكتار من 31 ألف هكتار كانت محددة قديما في إطار المحيطات الجديدة المخصصة للشباب للاستثمار.
وسطرت ورقة طريق وزارة الفلاحة، المنبثقة عن برنامج رئيس الجمهورية برنامجا لإعادة الاعتبار وتوسيع مساحة الأشجار المثمرة والمقاومة للجفاف، تشارك إدارة الغابات فيه بـ9800 هكتار لغرس أشجار الزيتون، الجوز، اللوز، بهدف تغطية الطلب الوطني على المكسّرات بعد توقيف استيرادها لتقليص تكاليف كانت تكلف الخزينة العمومية أموالا باهظة.
وتحدث محمودي عن ضرورة دعم الإنتاج الوطني في هذا النوع من المنتجات، لتلبية الطلب المحلي الذي يرتفع في موسم الأعراس، فلولا إجراءات مكافحة جائحة كورونا التي قلصت تنظيم حفلات الأعراس هذا الموسم لوصل سعر الكيلوغرام الواحد 5000 دينار.
كوفيد-19 ينعش الاستيلاء على المحيطات الغابية
لم تعد الحرائق الخطر الوحيد المهدد للثروة الغابية في الجزائر، وامتد عبث الإنسان ليطال مساحات غابية واسعة، عن طريق قطع الأشجار وتحويلها إلى أراض خاصة تستغل في نشاطات أخرى، دون وجه حق.
وتحمي السلطات العمومية، المحيطات الغابية من اعتداءات مافيا العقار بقانون عمره 36 سنة، أصبح يقف عاجزا عن تقليص ظاهرة الاعتداءات المستمرة.
وتأسف محمودي، لعدم قدرة قانون الغابات، بعد 36 سنة من وضعه، على تقليص ظاهرة الاستيلاء على مساحات غابية، إلى «درجة أن من يقوم بهذا الإجرام هو من يمنح لعون الغابة بطاقة هويته الوطنية ويقول له اذهب اعمل عملك، ويخرج بغرامة مالية بين 1000 أو 2000 دينار».
ويحتاج الأمر إلى مراجعة القانون، وإعادة النظر في الغرامات بشكل يضاعفها لوضع حد لهؤلاء، وانخراط العدالة في هذا المسعى لاسترجاع الأملاك الوطنية التي تم الاستيلاء عليها.
وانتعشت ظاهرة الاستيلاء على المحيطات الغابية في فترة الحجر الصحي. وذكر محمودي «أن أطرافا استغلت فرصة انشغال الرجال الحراجيين بعمليات التعقيم الواسعة في المساحات العمومية والمؤسسات، ومكافحة تفشي فيروس كورونا، للقيام بآلاف الاعتداءات على المحيطات الغابية في 48 ولاية»، دون أن يحصرها في رقم معين.
ويوضح محمودي، أن مراجعة قانون الغابات ليس فقط من أجل رفع قيمة الغرامات المالية، ولكن لتصبح الغابات شريكا فعالا في الاقتصاد الوطني بصفة مستدامة، وهذا يستدعي إيجاد إطار قانوني يسمح للأشخاص باستغلال المساحات الغابية، سواء في إنتاج النباتات العطرية، أو غرس أنواع من الأشجار المثمرة التي تمنح لها السلطات العمومية أهمية خاصة، مثل الخروب الذي اقتحم أسواق 35 بلدا، بفضل مستثمر جزائري في ولاية تلمسان، لهذا يتم العمل على تطوير هذه الشعبة، وتم لأجل ذلك إنشاء المجلس الوطني لشعبة الخروب يضم باحثين، محولين ومستثمرين. وحدد هدف غرس 500 ألف شجيرة من الخروب في حملة التشجير لسنة 2020-2021، خاصة وأنه مطلوب بكثرة في الأسواق العالمية، ويدخل في عدة صناعات ويعوض مادة الكاكاو.
ويتم تشجيع غرس شجر الأرقان (موقعه الأصلي تندوف) في مساحات أخرى من الجزائر، وقد أثبتت التجارب نجاح زراعته في ولايات أدرار، مستغانم، الشلف والجزائر العاصمة،حيث أعطت أشجار الأرقان في منطقة براقي نتائج مبهرة، وبدأت إدارة الغابات بولاية الشلف توزع شتلات الأرقان على المشاتل الخاصة، لاستغلالها مستقبلا في صناعة زيته.
الحراجي... ضحية سهلة للإرهاب وعصابات الفلين والفحم
يتحمل الحراجي أو»الڤارد» مسؤولية ثقيلة لحماية الغابة وضمان ديمومتها ونشاطها، فهو عين الدولة الساهرة التي تحمي محيطات ومحميات غابية ممتدة على طور سلسلة جبال الشمال، وفي عمق الهضاب والسهوب، وإلى غاية التسعينيات من القرن الماضي، كان يحظى بالعناية والاهتمام ويزود بكافة وسائل الحماية من أخطار محدقة.
لكن الرجل الحراجي، بعد هذا التاريخ تحول إلى «ضحية سهلة» للجماعات الإرهابية في فترة العشرية الحمراء، التي أرغمته على ترك السلاح، ثم أصبح ضحية لجماعات المافيا أو عصابات العقار والفحم، منذ ذلك الوقت إلى غاية اليوم.
 ويعترف المدير العام للغابات، بارتفاع عدد الاعتداءات على «الحراجيين» وأعوان الغابات في السنوات الأخيرة، مسجلا عدة حوادث، السنة الماضية، في حق هذه الفئة بولايات جيجل، أم البواقي، منطقة بوحمامة بولاية خنشلة، وهو ما جعلهم يطالبون بإعادة استرجاع سلاحهم المودع لدى السلطات الأمنية في فترة التسعينيات أو منحهم سلاحا جديدا، يحميهم من الاعتداءات المتكررة.
في انتظار ذلك، تم توقيع اتفاقية إطار مع الدرك الوطني، للتنسيق مع أعوان الغابات والخروج في دوريات مشتركة لمراقبة الصيد الجائر والتعدي على الثروة الغابية، ووضع حواجز أمنية مشتركة لمراقبة صيرورة المنتجات الغابية مثل الفلين والخشب المخصص للبناء والفحم، فقد تبين أن بعض العصابات تعمل على نقلها في شاحنات التبريد، المخصصة للياغورت أو مشتقات الحليب للإفلات من المراقبة الأمنية.
ويعاني السلك التقني لعمال الغابات من نقص في الموارد البشرية. وبحسب محمودي، «5500 رجل حراجي تابع للسلك التقني غير كاف، فهذا العدد كان يعمل قديما في مساحة 1.4 مليون هكتار والآن أسندت لهم مهمات التنمية الريفية في مساحة تعادل 238 مليون هكتار من مساحة الجزائر، وهو ما يحتاج إلى فتح مناصب شغل ودعمهم بوسائل نقل وسيارات الرباعية، لأن المسالك الغابية وعرة وتجاوزنا مرحلة استعمال الأحصنة».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024