وزير الإعلام السابق لمين بشيشي لـ ''الشعب'':

ضعف السلطـة الرابعــــة راجــــع لسوء الانطلاقة غداة الاستقـــلال وتراجــع المنظومـــة التربويـة

حاوره: حكيم بوغرارة

يرفض لمين بشيشي وزير الإعلام السابق في منتصف التسعينيات الحديث عن الإعلام بمعزل عن المرجعيات التي تحكم البلاد والذاكرة التاريخية والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مؤكدا في حوار مع ''الشعب'' أن الفترة التي قضاها على رأس وزارة الإعلام في منتصف التسعينيات تعتبر الأسوأ في مساره بسبب الظروف الصعبة التي عمل فيها.
 وعن بعض المواقف أثناء الثورة وعن تجربته في إذاعة صوت العرب وعن مختلف المراحل التي عاشتها الجزائر بين الاشتراكية والتعددية والعشرية السوداء، وغيرها من الأحداث سنكتشفها في هذا الحوار الذي خصنا به الدبلوماسي السابق.

''الشعب'': كيف يمكن أن نقيّم الساحة الإعلامية في الجزائر في ظل التحولات والرهانات الوطنية والإقليمية والدولية؟
 لمين بشيشي: إن تقييم الساحة الإعلامية يجرني للحديث عن الواقع الذي تعيشه الجزائر فمهما كانت الضغوطات والظروف، إلا أنني لا أفقد الأمل في غد أحسن، وأضيف هنا أن التاريخ يدفعنا دائما للتفكير في المستقبل وهو ما ينطبق على الساحة الإعلامية، فقد كنا بعد الحرب العالمية الثانية نفكر في كيفية تفجير الثورة وإخراج فرنسا وكأن الزمن سيتوقف بعد هذه المهمة، ولكن الاستقلال بيّن لنا أن حرب التحرير كانت جهادا أصغر، ومعركة البناء والتشييد كانت الجهاد الأكبر، واتضح أنها أصعب بكثير.  
والحديث عن الإعلام يذكرني بمروري على الوزارة في منتصف التسعينيات التي أعتبرها أصعب تجربة مررت بها في حياتي ولا أخفي عليكم ندمي وتأثري الشديد بالنظر لما عشته في تلك الفترة وما وقفت عليه في هذه الفترة التي جعلتني في مواقف لم تخطر على بالي، لقد خضت تجارب في قطاع التربية والثقافة ولكن لم تكن بمستوى المرارة التي عشتها أقل من عام في وزارة الإعلام.
@ ما الذي يجعلكم تتحدثون بحصرة عن تجربتكم على رأس وزارة الإعلام بين ١٩٩٤ و١٩٩٥ وقد عملتم في القطاع تحت نير الاستعمار وظروف أصعب بعد الاستقلال؟
@@ يجب أن يعرف الجميع أن قطاع الإعلام يجب أن يكون على رأس الوزارات السيادية والوقت والتحولات بينت أن الاتصال لا يقل أهمية عن الدفاع والمالية والداخلية والخارجية والعدل، وهذا من خلال القدرة على صناعة المعلومات والأخبار وليس نقلها فقط، بالإضافة إلى صناعة وتشكيل الرأي العام التي تعتبر عملية ليست بالهينة.
والإعلامي مثلما علمتني التجربة في إذاعة صوت الجزائر  من القاهرة، أنه صاحب قرار، وليس ناقلا له من مختلف المصادر فقط، وأتذكر هنا ما حدث في تغطية مظاهرات ١١ ديسمبر ١٩٦٠، وبعد الهمجية التي تعامل بها الاستعمار جعلت الإذاعة تبث تعليقا تتحدث فيه عن ضرورة اعتراف ديغول باستقلال الجزائر، وليس بحق تقرير المصير وهو ما أحدث زلزالا قويا أجبر عبد الحفيظ بوصوف عضو الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على الاجتماع بنا وإبلاغنا بالمفاوضات السرية التي تخوضها جبهة التحرير الوطني مع فرنسا دون علمنا، وكان ذلك التعليق سببا في ما حدث وهو ما يعكس قدرة الإعلامي والصحفي على صناعة الحدث.
ووجه لنا عبد الحفيظ بوصوف آنذاك ملاحظات تؤكد ضرورة التقليل من الاندفاع، لأن الجزائر كانت تمر بمرحلة حساسة ومرتبطة بالمواثيق الدولية في سياق الوصول إلى تقرير المصير، وبالتالي كان يجب التحلي بالدبلوماسية حتى لا تستغل فرنسا أي فرصة للتشويش على مسار استقلال الجزائر، وضربنا في المحافل الدولية، وأنوّه هنا بالصحفيين في إذاعة صوت الجزائر على غرار عبد القادر بن قاسي، بن حبيلس، مبروك بن حسين، محمد حربي، علي لونيسي.
وهنا يجب الوقوف عند الفرق بين السياسي والإعلامي في الثورة، فالسياسي دائما يحبذ السرية والإعلامي مطالب بالعلانية والإعلام، وهو ما يفسر التباين في المهام، وبالأمس كنا نشتاق لمصادر خبر لصناعة الأنباء، لقد كنا نستنجد بالصحف الأجنبية المناهضة للاستعمار لضمان البث سواء للإذاعة بالعربية أو الفرنسية.
@ لقد شهدت فترة توليك وزارة الإعلام في ١٩٩٥، والإذاعة الوطنية  في ١٩٩٢ تدهور الوضع الأمني وكثرة اغتيالات الصحفيين، كيف تعاملت مع تلك الفترة خاصة مع تعليمة معالجة الأخبار الأمنية؟
@@ نعم لقد عانيت كثيرا على رأس الوزارة، حيث اتصل بي رئيس الجمهورية السيد ليامين زروال عن طريق رئيس الحكومة آنذاك مقداد سيفي، ولم أكن لأرفض بالنظر للتحولات الخطيرة التي كانت تمر بها الجزائر، وكان الأمر أخطر بكثير، حيث أدى تدهور الأوضاع الأمنية، إلى العمل بلا معايير والغاية كانت ضمان استمرارية الدولة.
وكنت أنهض يوميا على أخبار اغتيال الصحفيين لقد كانت دراما حقيقية وتألمت كثيرا لفقدانهم لقد عرفت الكثير منهم ، وأذكر واحدا منهم كان يدعى بوترفيف رحمه اللّه، كان إعلاميا بالإذاعة اشتكى لي من المشاكل والتهديدات التي يعاني منها، واقترحت عليه المبيت في الإذاعة ففعل ذلك وفي أحد الأيام نادته زوجته وابنته التي كان عيد ميلادها، وقالت له أريد أن أطفئ شمعة عيد الميلاد معك فلبى رغبتهما وسمعت بعدها أنه اغتيل رميا بالرصاص بصورة مؤلمة كثيرا.
ووقفت كثيرا على مشاكل الصحفيين وخاصة الاجتماعية منها عندما كنت على رأس الإذاعة في ١٩٩٢، حيث كان جل رجال مهنة المتاعب يعانون من مشكل السكن ولم نقدر على فعل أي شيء في ظل انعدام هامش المناورة والمبادرة عكس ما يملكه وزراء الاتصال اليوم.
@ كيف تنظرون لفتح قطاع السمعي البصري؟
@@ إن الجزائر بحاجة إلى فتح القطاع السمعي البصري من أجل حماية هويتنا والتصدي للقنوات التي تتاجر بالدين وتطلق فتاوى غريبة، ولذلك فإنشاء قنوات خاصة من شأنه أن يحصن هويتنا وثقافتنا ببرامج في المستوى.
@ كيف كان واقع السلطة الرابعة غداة الاستقلال وهي المرحلة التي شهدت الكثير من خلافات بين قيادات الثورة، وهل يمكن مقارنتها بمرحلة بداية التعددية؟
@@ أولا يجب التنويه بأن حزب جبهة التحرير الوطني وإن كان واحدا، إلا أنه كان يجمع الكثير من التيارات. فالجزائريون انخرطوا بصفة فردية، وكانت اجتماعات الحزب ومجلس الثورة وغيرها من الهيئات تتخللها نقاشات حادة وتباين في الأفكار ولم تكن تظهر كثيرا للعلن، وحتى نحن كنا نتفادى الحديث عنها بالنظر لغاية الاستقلال التي كانت تجمعنا وتذيب كل الفوارق، فتحقيق ذلك الهدف كان أسمى من أن نبرز أي أمر آخر.
ويبقى هناك أمر مهم للغاية معروف لدينا وهو صعوبة تقبل آراء الآخر فهذه الحقيقة لا يجب إنكارها وبقدر ما كانت الساحة السياسية والإعلامية مغلقة آنذاك، فالانفتاح الإعلامي والسياسي الكبير اليوم لن يؤدي إلى أي نتيجة بالنظر لتدهور المستوى، وإن كانت هذه الفسيفساء تخدم البعض إلا أنها لن تدوم، فبناء الدولة يحتاج لقرون على غرار ما حدث في فرنسا والثورة الفرنسية، والجزائر اليوم لها ٥٠ سنة استقلال وبإمكانها الاستدراك بتصحيح الانطلاقة الخاطئة التي سجلتها في ١٩٦٢.   
وأعتقد أن العودة للدفاع عن مقومات الجزائر من العربية إلى الدين وتعزيز المصالحة بين أنفسنا من أهم الأسس، لقد تراجعنا كثيرا في هذه المجالات.
@ في ظل تمسككم بتقييم الإعلام بالمسار التاريخي للجزائر وربطه بمختلف المجالات. هل لكم أن تعطينا تشخيصا عن واقعنا اليوم؟
@@ تواجد أكثر من ١٠٠ يومية مبالغ فيه كثيرا، خاصة وأنها عاجزة عن تشكيل رأي عام وهذا الواقع لن يدوم، وهناك نقطة أود الإشارة إليها هو انحراف بعض وسائل الإعلام التي تعمل على دغدغة مشاعر المراهقين من أجل بيع صحفهم ومجلاتهم دون العمل على تقديم خدمة الحق في الإعلام.
وما لفت انتباهي هو ولوج العنصر النسوي بقوة لمهنة المتاعب ولكن يبقى المستوى بحاجة إلى تطوير، فالإعلامي الذي لا يقرأ، ولا يطلع، ولا يملك ثقافة واسعة سيفتقد لقوة الملاحظة وقد يمرر أخطاء كارثية، فقد اكتشفت في الكثير من الكتابات والكتب أخطاء وأكاذيب تاريخية دعوت لتصحيحها، وأدعو بالمناسبة الإعلاميين إلى الاطلاع على تاريخ بلادهم والتحكم في اللغات.
وتذكرني هنا واقعة هو أن محمد بن يحيي ورضا مالك راجعا مضمون اتفاقيات ايفيان أكثر من ١٠ مرات قبل التوقيع عليها واكتشف رضا مالك خطأ لغويا واحدا نبه له محمد بن يحيي، وتم إعلام الفرنسيين الذين اعترفوا به وتم تصحيحه، ولولا التكوين الجيد والوعي بالمسؤولية لما تمكّن قادة الثورة من مجابهة فرنسا وهو ما يجب أن يعيه أي إعلامي.
ولا ينكر أحد أن بعض وسائل الإعلام تمكنت من كسر الكثير من الطابوهات، وأبانت بعض العناوين عن جرأة في طرح بعض المواضيع رغم محدودية الإمكانيات، بينما يبقى وضع الصحافة العمومية خاصا نوعا ما، فهي منضبطة ولها خط معين تتبعه ويجب أن تحترمه وحتى وإن قيل عنها بأنها تمدح كثيرا، إلا أن هذا لم يمنعها من الانتقاد البنّاء في الكثير من المرات غير أن عقلية بعض المسؤولين لا تتقبل الحديث عن نقائص في قطاعها.
وأنصح بتكثيف عمليات التكوين والرسكلة للصحفيين من أجل تجاوز الصحفي الموظف، فالممارسة تقتضي الاهتمام أكثر.
@ بالمناسبة وبما أنكم  تحدثتم عن اتفاقيات ايفيان، هل هناك تقصير في منح الاهتمام لهذه الوثيقة والترويج لها مثل بيان أول نوفمبر ١٩٥٤ مثلا؟
@@ الاهتمام بتاريخ الجزائر يبقى بعيدا والحديث عن اتفاقيات ايفيان يجعلني أتحدث عن بيان أول نوفمبر الذي يجهل الكثير بأن جبهة التحرير اقترحت مفاوضات على فرنسا من أجل حقنا في تقرير المصير مثلما ورد في البيان.... ''.
  وكان وزير الداخلية الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران الذي أصبح رئيسا لفرنسا فيما بعد قد رد على مقترح جبهة التحرير الوطني بأن المفاوضات الوحيدة هي الحرب وكان ذلك في ٥ نوفمبر ١٩٥٤، ولكن فرنسا لم تستطع المقاومة وانهار اقتصادها أمام قوة الثورة إلى أن اعترفت بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير.
وحقيقة تبقى بعض البنود في اتفاقيات ايفيان مثيرة للجدل، ولكن الظروف آنذاك كانت تفرض قبولها على غرار استغلال فرنسا لقاعدة المرسى الكبير بوهران واستعمال بعض المطارات وإجراء التجارب النووية الفرنسية، فعلى الجميع أن يعرف بأنه ليس كل المشاكل آنذاك كان يمكن حلها عسكريا مع الاستعمار.
@ ما الذي لفت انتباهكم في التحوّلات السياسية التي عرفتها الجزائر، خاصة بعد أحداث أكتوبر ١٩٨٨ وإصدار أول دستور تعددي في ٢٣ فيفري ١٩٨٩.
@@ في تلك الفترة كنت سفيرا للجزائر بالسودان وتابعت تلك التحولات باهتمام شديد، ولا أخفي عليكم عدم تقبلي لدستور ٢٣ فيفري ١٩٨٩ الذي حمل أشياء خطيرة جدا، حيث سمح بإنشاء أحزاب على أساس ديني وجهوي وهو ما أدى إلى انقسامات خطيرة على مستوى الساحة السياسية، ولما ناقشت الأمر مع بعض المسؤولين برروا ذلك برغبتهم في السماح لكل التيارات بالعمل علنا بعيدا عن السرية التي كانت تطبع العمل السياسي في الجزائر منذ الاستقلال، وهو ما خلّف الكثير من المشاكل والحساسيات لقد عجزنا منذ مؤتمر طرابلس في ١٩٦٢ في الوصول إلى قوانين إجماع وهو سبب تخلفنا.
 بينما التركيز على التغيير في كل مرة واعداد قوانين ثم تعديلها بات ملفا لا يسمن ولا يغني من جوع ويبقى أننا لو انطلقنا على أسس صحيحة لكنا في مستوى كوريا الجنوبية في التطور.
 ويبقى إهمال المنظومة التربوية وتحييدها عن الدور الذي أنشئت من أجله من أكبر الأسباب التي جعلت الإعلام يتراجع ولا تتعجبوا من هذا الربط،  طالما أن الإعلامي ابن المنظومة التربوية، وبما أن المنظومة التربوية تعرضت للكثير من الاهتزازات والاختلالات، خاصة وأن الإضرابات والحديث عن الإصلاحات هو السمة الغالبة على التربية التي تراجعت كثيرا .
 لقد استغربت تحديد عتبات الدروس في شهادة الباكالوريا، كيف يمكن تبرير ذلك، ألا يعلم القائمون على قطاع التربية بأن شهادات الجزائريين تحتاج إلى مطابقة في الخارج، وهو ما يدفعنا لإعادة النظر في الكثير من الأمور.
 فالتربية كما عرفتها تمسك بالمقومات ومجال لزرع القيم والحفاظ على المكاسب الوطنية، والواقع يظهر العكس، وبالتالي لا يمكننا انتظار النجاح، وأضيف هنا لماذا أصبح الجزائري يخاف من الجزائري، لماذا تراجعت اللغة العربية، لماذا عمّ الخوف.
 لقد عملت فرنسا الاستعمارية على طمس الهوية الوطنية، وعدم تحكمنا في أية لغة يؤكد ذلك، وهذا الوضع لن يصحح إلا من خلال رد الاعتبار للمنظومة التربوية التي تستحق أحسن .

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19454

العدد 19454

الخميس 25 أفريل 2024
العدد 19453

العدد 19453

الأربعاء 24 أفريل 2024
العدد 19452

العدد 19452

الإثنين 22 أفريل 2024
العدد 19451

العدد 19451

الإثنين 22 أفريل 2024