صديقي يَــانْـغ2009

بقلم عادل مصطفاي

بدأت الرحلة سنوات قبل إقلاع الطائرة, منذ أيام الطفولة السعيدة المُفعمة بالأحلام و الطموح. كانت التذكرة حلم أبي الذي لم يستطع تحقيقه أو الإفصاح عنه, كان سره المدفون في قبره الذي أفشته كتبه و كتاباته ذات الغلاف الأحمر و المزخرفة بالخط الصيني أحيانا و بصور الزعيم الصيني «ماو تسي تونغ» أحيانا أخرى. أتذكر جيداً أني نشأت مع أحلامه و لم أكن أعلم آنذاك أن الرحلة التي دامت أكثر من تسع ساعات كانت كفيلة أن تختزل ذاكرة الطفولة و أن تجعل من أمنيات أبي حقيقة تلاحقه بين زوايا قبره.
من بساطة أبي أستمديت الشجاعة الكافية لأقرر ذات يوم الذهاب في رحلة العمر, لم ارث عن أبي نحافة جسمي أو ضعف نظري فقط بل ذلك الحب الذي رافقني طيلة أيام الدراسة, حب لحضارة استطاع النجاة رغم كل شيء. تجاوزت الأيام أفكاري و سبقني نداء عبر مكبر الصوت راجياً المسافرين إلى «بكين» التوجه نحو البوابة المخصصة لذلك, كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما أقلعت أفكاري من أرض الأحلام إلى ميادين الوفاء, لم أعلم حينها من أنا, أ أبي كنت أم شخصا أخر, لكن كان بإمكاني أن أرى ابتسامته من النافذة أعلى السحاب مرسومة على وجوه مضيفات الطائرة الجميلات و متشحة بألوان السحاب الطاهرة. أبت الساعة في يدي إلا أن تشير إلى قرابة الثامنة ليلاً عندما حطت الطائرة على مدرج المطار في حين أن الوقت حينها كان الثالثة صباحا من يوم الثالث من آذار, نسيت أو تناسيت فارق الوقت كما تناسيت النوم, لم أكن أريد ذلك فشوق كبير و أفكاري الموروثة كانت تمنعني من ذلك. كان بانتظاري موفد من الفندق يحمل قصاصة ورقية عليها اسمي, لم أدرك حينها أنني قد تمكنت من الوصول رغم ختم المطار الصغير بحروف صينية على جواز سفري. «يانغ» هو من كان يحمل تلك القصاصة ليصبح في أيام أعز أصدقائي. ذهبنا نحو الفندق, لم تكن المسافة طويلة و لكن بصري لم يغادر صغيرة و لا كبيرة على حافتي الطريق السريع, لم أحس بالتعب و بالرغم من استلقائي عند وصولي الفندق إلا أنني لم أستطع النوم منتظرا صباح يوم جديد.
بدأت رحلة الوفاء  من ردهة الفندق حيث كانت ابتسامة «يانغ» باستقبالي, كان شابا وسيما من الريف, بسيطا, و ودوداَ. بدأ في العمل هنا منذ ثلاثة أشهر قادما من إقليم «شان زان» جنوب الصين, كان تكلمه بالانجليزية معي طريفاَ, طلبت منه اجراء مكالمة هاتفية لأتصل بصديق لي, فقام بمرافقتي في أزقة ضيقة على جانبي الفندق المتواضع, قمت بالاتصال و ساعدني ذلك الريفي الطيب في  تحويل العملة, شراء شريحة هاتفية و كذلك بعض النصائح التي استفدت منها خلال زيارتي. بعد يوم من التنزه في شارع «وانغ فو جينغ» الراقي, استمتعت بوجبة «باو زي» اللذيذة مع صديقي, كانت الغرفة الصغيرة قد امتلأت بأحاديث و دعابات «يانغ», كل ليلة كان السهر يبادلنا أطراف الحديث و لم أحس في لحظة واحدة أني غريب, بل أضافت صداقتي الجديدة نوعا أخر من الحب الذي ورثته فأصبح إعجابا و تقديرا لشخص لم أكن لألتقي به لولا شجاعتي التي طالما خانتني من قبل لكنها الآن و في هذا المكان أصبحت من شيمي. بساطته كانت تاجا على رأسه, وشوارع العاصمة رغم جمالها لم تكن لتوقفني عن مناداته كل ليلة و المشي معه لساعات بين شوارع لم أحس أنها مضيئة بأنوارها الخلابة فقط, بل أيضا لأن «يانغ» كان قد أخذني إلى مكان أبعد, ليست العاصمة و لا حتى الصين, بل حيث الطيبة و البساطة تتلونان بأنغام السحاب و الريح. ككل يوم جديد, تشرق الشمس من هنا, حيث نافذتي المطلة على زقاق ضيق أين يصطف البائعون مع رائحة غريبة استطعت أن أشمها رغم الزكام, رغم الريح و البرد القاسي إلا أن نشاطي أزداد كل يوم لمعرفتي أنه يوم جديد مع صديق أشتاق إليه في كل لحظة, كان أخا لي, نتقاسم كل شيء, نتكلم لساعات في كل شيء, يستعمل عطري كل يوم كما أنه يزيل الغبار عن التاريخ أو أنه يحاول أن يكتب عبارات الصداقة و الأخوة في جبينه مع كل رشة, كان يتصرف كما أنه يعلم جيدا أنه في الأمس كان ريفياً من الجنوب أما الآن فقد أصبح بدون مقدمات من أقربائي. خرجنا سويا, لا نعلم أين تقودنا أرجلنا وسط البرد القاسي لكننا لم نبالي, فأينما ذهبنا كان في انتظارنا ما كنا نود أن نعيشه, كنا كما تلك العيدان المستعملة في الأكل, لا نفترق و إن افترقنا لا نستطيع فعل شيء, «بكين» معه كانت ببساطة أروع من تلك الصور أو الأفلام التي حملتها في خاطري لأواجه, كما اعتقدت, حياة جديدة في بلد أحبه. لم نترك مكانا إلا ذهبنا إليه, من سورٍ نُقِش في التاريخ إلى أحياءٍ بكين الشرقية. كان صديقا وددت أن أراه مبتسما كل صباح لأعلم مدى جمال اليوم الذي ينتظرني. أنساني «يانغ» أنني هنا في جسدي أبي, لكنه ذكرني في كل لحظة تلك العبارة التي طالما أنشدها الآخرون, تلك العبارة التي تقول « رُب أخِ لكَ لم تلده أمك».
 تذكرت للحظات أن وجودي هنا كان لهدف ولكن, قرأت في كل دقيقة أن الحياة جميلة و أن الأجمل أن تكتشفها مع صديق, لم يعد لهذا المكان وجود بعد الآن, ولا لشخصيات الماضي, بل كانت الحياة أجمل من أن تكون كذلك, أحسست أحيانا بطعم الخيانة لأنني لم أستطع تذكره دائما ولكنني كنت متأكدا أن ذلك المدفون على بعد ألاف الأميال من هذه المدينة يستطيع أن يعذرني, ببساطة لأنه هو من وهبني أسمه أول مرة. من «وانغ فو جينغ», ذلك الشارع المزدحم بدأت قصتي مع «أخي» و منه ستنتهي يوما تاركة في محلاتها أشواقا و ذكريات كُتبت بيدي شخصين, ربما لم يكتب صديقي كلمات كهذه التي أقرأ و لكن أنا متأكد أنه مثلي, يستطيع أن يقرأها بلغته, بتعبيره وبذكرياته التي شاءت الأقدار أن تتقاسم الحياة لِأيام معي, وان كانت في حسابات الرياضيات قليلة و لكنها, منحتني شخصا أتعلق به و اعتبره كتلك الابتسامة التي رٌسمت, غير قابلة للنسيان.  
جاء وقت الرحيل, جاءت كلمات الوداع, رغم تعب اليوم, من الفندق إلى المطار, لم يغب عن تفكيري بالرغم من أنه معي, كان علي الرجوع لأتم رسالتي, في كلمات ربما أو على السحاب, كان الفخر ينتابه و لكنه لم يمنعنه أن عانقني مع كلماته خشية أن يفقد كبريائه و يذرف الدموع أمامي, كنت مثله, اخفي ما ينتابني وسط الابتسامات, أخر الصور معا كانت في المترو, صباح يومٍ لم أعرف مداه و كان هناك أيضا, ذلك الريفي يشير الوداع بيده, كان أخي في وداعي.  

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19444

العدد 19444

الأحد 14 أفريل 2024
العدد 19443

العدد 19443

السبت 13 أفريل 2024