الكاتب سفيان عبد اللطيف مع «الشعب»

الدراسة التاريخيّة ضرورة ملحّة لاستشراف المستقبل

أمال مرابطي

تاريخ المكوّن البشري الجزائري مرتبط بعاملين اثنين، الأول موقع الجزائر الجغرافي، والثاني هو المتغيرات التي خلفها العامل الزمني، وهما العاملان اللذان مهّدا لأشكال من الحضارات القديمة، تشكلت عبر كامل التراب الوطني أو على مناطق منها. ولعب التدخل الأجنبي دوره، فمثلا حرص الدخول الروماني على إبادة القبائل الجزائرية، ومعظمها هربت إلى أعالي الجبال وأخلت السهول.. وللحديث حول الموضوع وكيفية جمع المادة التاريخية ودراستها كان لـ»الشعب» حوار مع الكاتب سفيان عبد اللطيف..


 
الشعب: تنوّعت كتاباتك بين الشعر والمسرح والكتب التاريخية.. أين تجد نفسك أكثر؟
سفيان عبد اللطيف: في الحقيقة الشعر والمسرح مادتان اجتماعيتان فنيتان، عادة ما يرافقهما عنصر المتعة والتعليم، وأحيانًا كثيرة تكونان مادّة للتوعية لها شأنها، ولكن الدراسة التاريخيّة ضرورة ملحّة في زمن تنبني فيه كل العلاقات على البعد التاريخي وتعتبر من أحداثه لتستشرف الـمستقبل، لذلك أجدني أكثر ميلاً للدراسة التاريخيّة.

@@ من هم القرَّاء الذين تستهدفهم كتاباتك؟
@@@ في ظل انتشار الرقمية وشبكات التواصل يعدّ هذا سؤالا وجيها، لأن جيل الكهول متمسك بالكتاب الورقي في حين أن الجيل الجديد يحتاج لمناهج جديدة في تقديم المادة التاريخية حتى تحظى بالقبول عنده، والصراحة تجوّلت في مواقع التواصل ووجدتُ اهتمامهم بالتاريخ البعيد عن المناسباتية كبيرًا جدا، لذلك تعتمد كتاباتنا لغة جديدة موجهة للجميع.

@@ كيف جاءتك فكرة جمع التاريخ في كتاب يتحدث عن عروش وقبائل تشتت بين قالمة وسكيكدة وجيجل وغيرها من ولايات الوطن؟ ما سرّ هذا الاهتمام؟
@@@ البحث في أصول القبائل والأعراش الجزائريّة ليس موضوعًا جديدًا، فقد سبقنا إليه في كل العصور نسابة ومؤرخون من زمن القدماء عند بطليموس وديودور وبوتنجي إلى الزمن المعاصر عند لقبال وبوزياني، وهذا الأمر يطرح نفسه بإلحاح في المناطق التي لا تزال تنال القبليّة منها نصيبًا جديًّا وتكثر فيها الخرافات والأكاذيب التي حرص
على بثها الاستعمار الفرنسي في سياسة (فرق تسد)، وإذاك تثار الفتن الكبيرة ويهلك الناس وقد رأينا بوادر ذلك في منطقة القبائل الكبرى وغرداية وغيرها، ومنها منطقة (كتامة) أو القبائل الصغرى كما يحلو للبعض تسميتها الواقعة في الولايات التي ذكرت وولايات أخرى، إذ لمسنا الكثير من الطلب الشعبي على هذه المادة فذهبنا إلى ضبطها بطريقة علمية لغلق الباب على كل من تسوّل له نفسه تحريفها أو توجيهها لأغراض الفتنة.

@@ ما الذي ركّزت عليه بالتحديد خلال جمعك للمادة التاريخية؟
@@@ لقد كان من الواجب الإشارة إلى أن تعدّد الأصول والمشارب مكسب ثقافي وإنساني بديع، وأن الله تعالى خلق الشعوب والقبائل ليتعارفوا فيختلطوا ويتعايشوا، وللجزائر من ذلك نصيب وافر والحمد لله، ولكن ما أفسد عليها ذلك هي المشاريع الاستعمارية التي مرّت عليها في مختلف العصور، والتي حرصت على إضعاف قوتها بزرع الفتن العرقية واللونية فيها وهو ما فعله الرومان بداية وورثتهم الفرنسيون من زمن قريب، ولا يخفى على أحد من المؤرخين أن الثورات التحررية اختلطت فيها دماء جميع الأجناس الجزائرية وأخص بالذكر الثورة الكبرى على الفرنسيين، وإذاك لم يعد من الممكن تفريقهم من جديد.

@@ ليس سرا غياب التوثيق والتأريخ لمسار بعض العروش.. فكيف استطعت جمع المادة اللازمة لبحثك؟
@@@ إن إغفال دور أي قبيلة من قبائل الجزائر في بناء تاريخها أمر خطير وإهمال مريع، فلا يخفى على أحد أن الجزائر حديثةُ عهدٍ بالنظام السياسي الحديث الذي يعتمد (الدين والوطن والأصل واللغة) عواملَ لوحدة الأمة، وكان إلى عهد قريب يعتمد النظام السياسي القبلي الذي لا تزال آثاره موجودة في الجزائر كما في كثير من الدول العربيّة، والتاريخ الجزائري في معظمه مرتبط بتلك القبائل والدول التي قامت على أكتافها، على غرار الدولة الأغلبية التي أسّسها العرب الفاتحون، والدول الفاطمية التي أسستها كتامة، والدولة الحمادية التي أسستها صنهاجة، والدولة الزيرية التي أسستها زناتة... وغيرها، والتي للأسف أتلفت حوادث الدهر الكثير من مصادرها، ولذلك كان التحرّي واجبًا لا مناص منه في البحث، والاعتماد على ما جاء في الآثار المدققة والمخطوطات المحققة هو السبيل الوحيد في الدراسة.

@@ لا اختلاف على أهمية المصادر.. ولكن هل هي على نفس الدرجة من المصداقية؟ وما عيوبها وتناقضاتها برأيك؟
@@@ لا غنى لأي باحث في الحقل التاريخي عن المصادر، وهي مرتبة من حيث المصداقيّة على حسب الموضوع المتناول بالدراسة، فالبحث في دولة الرومان مثلا يعتمد أكثر شيء على الآثار المادية، والبحث في دولة المرابطين يعتمد أكثر على المؤلفات الدينيّة، والبحث في الأصول يعتمد على كتب النسابة... وهكذا، وبالعكس من كلّ العلوم يعدّ الاختلاف في البحث التاريخي زخمًا يمنح المؤرخين مجالاً أوسع للمقارنة والتقدير، ولكن في بحثنا مثلا عن أصول القبائل تتفق المصادر كلها تقريبًا ونجد بعضها يستشهد ببعض، وينقل بعضها عن بعض، بداية ببطليموس وديودور الصقلي وبوتنجي ومرورًا بسيداموسنسيس السطيفي، إلى القاضي النعمان التميمي والادريسي والبكري وابن خلدون، إلى ابن العنتري وابن المبارك ابن العطار، إلى طوكسيي وأوكابيتان، إلى موسى لقبال والدراجي بوزياني وسعد الله وغيرهم.. كلهم تناقلوا المادة التاريخية التي شملوها بالتحقيق ثم نقلوها إلينا بتقديراتهم التي لابد من التدقيق فيها وتبسيطها بلغة الأجيال المتجددة، لكونها أمانة عابرة للعصور.

@@ بالنسبة للكتابات التاريخية، ما الذي يجعلها تختلف عن الكتابات الأخرى المستقاة من الواقع؟ وكيف يتم التحقّق من مصادرها ومطابقتها للحقيقة؟
@@@ تكمن صعوبة الكتابة التاريخيّة في دقة المنهج وانضباطه من جهة، إذ لا يحقّ للباحث التصرّف في الحقيقة التاريخية التي تبقى دائما نسبيّة وتقديرية، وتعدد المهام من جهة أخرى، إذ لا تقتصر الكتابة التاريخية على نقل الحدث فحسبُ بل تسعى إلى ربط الأحداث بعضها ببعض، والاستعانة بسياقها لاقتراح تقديرات تسدّ الثغرات الموجودة فيها، وتحليلها لاستنباط أسبابها وظروفها ونتائجها، من أجل تقديمها للقارئ جاهزة للاعتبار بها، وكلما اتسعت رقعة البحث أو توسعت الحقبة الزمنية المدروسة ازداد البحث صعوبة وعسرًا. بينما أوافقك في قضيّة التحذير من بعض المصادر التي تحتاج إلى واجب التحفظ، فالتاريخ كما يعلمه الجميع يكتبه المنتصر، وعلى سبيل المثال يحتاج الأخذ عن كتب الفرنسيين الاستعماريين إلى تحقيق طويل وواجب التحفظ على المعلومات التي توردها، لأنها ببساطة كُتبت بمنظورهم الذي يرى كل ثائرٍ على حكمهم متمردًا مجرمًا، بينما يراه الجزائريون مجاهدًا بطلاً.

@@ هل تشتغل حاليا على كتابات محددة؟
@@@ بصراحة كان واجبًا عليّ الانطلاق من منطقة محدودة جغرافيًّا لأستطيع الإحاطة بدراستها إحاطة مقنعة، واخترت لذلك منطقة الميليّة مربع الصبا التي بخلت حقها من البحث لزمن طويل، ثم أبحث الآن في منطقة جيجل وقسنطينة قبل التوسع في تاريخ الـمناطق الجزائرية الشاسعة، التي لا أظن عمري كله سيكفيني لذكر قليل من زخمها التاريخي الضخم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024