المجاهد عبد القادر بليدي “سي مصطفى” يلتحق بالرفيق الأعلى، بعد أن حال المرض دون مواصلته مجموعة اللقاءات حول مذكراته “في جبال الحرية” الصادرة ديسمبر الماضي.
سيتحدّث كثيرون عن الفقيد عبد القادر بليدي، سيذكرون أنه من مواليد 1935 بالبليدة، سيتطرقون إلى التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني بالمنطقة السادسة (التي أصبحت الولاية التاريخية الرابعة) بقيادة العقيد عمار أوعمران..وإلى انضمامه إلى كوموندو علي خوجة “الأسطوري”، واحد من أيقونات حرب التحرير الوطني، سيقولون إنّه تشبّع بالروح الوطنية التي استلهمها من سويداني بوجمعة والطيب جغلالي.
ولكنّني سأستحضر دائما ذلك الحديث الذي جمعنا مؤخرا في شارع الشهداء، والذي وإن لم يدم طويلا، إلاّ أنّه كان كافيا لأتلمّس نقاء سريرة هذا المناضل وإيمانه بالقضية الوطنية.
أذكر كيف اعتبر “سي مصطفى” شباب الجزائر ذخرها وقوتها الحقيقية، وكيف أن تاريخ هذه البلاد لم يزل، ولن يزول من قلوب أبنائها..ولذلك رأى بأنه من واجب صنّاع معركة تحرير الوطن أن يحافظوا على الذاكرة وينقلوها إلى الأجيال الصاعدة، تخليدا لذكرى الشهداء وعرفانا لتضحياتهم..وفي هذا السياق جاء كتابه “في جبال الحرية” الذي نقل فيه جزءً ممّا عاشه هذا المجاهد الفذّ في قلب الحرب التحريرية.
ميزتان شدّتا انتباهي في المجاهد الفقيد عبد القادر بليدي: الأولى طيبته اللامتناهية وتواضعه الشديد، وهي ميزة قد تبدو دخيلة عمّن حمل السلاح وخاض غمار الحرب وعاش ويلاتها، ولكنها صفة مناضلينا الذين لم يخوضوا الحرب افتراءً وعدوانا، بل ردّا للمعتدين الغاصبين وذودا عن أرضهم الطيبة.
أما الميزة الثانية فكانت الرابط القوي المتين الموجود بين رفقاء السلاح من محاربي جيش التحرير، والذي لم يتأثّر بوطأة الزمن وملهيات الدنيا..ولا ينشأ مثل هذا الرابط إلا بين رجال جمعتهم القضية الصادقة، والظروف القاهرة، والإيمان الراسخ..رجال وضع كلّ واحد منهم حياته بين يدي رفيقه في ثقة عمياء..رجال تدمع أعينهم إلى اليوم كلّما ذكروا رفيقا شهيدا أو فقيدا..{رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا}.
لقد حال مرض “سي مصطفى”، ثم التحاقه بالرفيق الأعلى، دون تلبيتي دعوته للقاء مطوّل نتطرّق فيه إلى زوايا من مسيرته النضالية..ولكنها للأسف حال جيل كامل من مفجّري الثورة وصنّاع الاستقلال، الذين يغادروننا تباعا حاملين معهم جزءً بالغ الأهمية من هويتنا وماضينا وأمجاد أمّتنا..ولعلّ عملا حثيثا من أجل حفظ هذه الذاكرة بات أكثر إلحاحا من أيّ وقت مضى..
رحم الله “سي مصطفى”، وألهم أهله والعائلة الثّورية صبرا وسلوانا..