جزء من محمية دولية ومسـار سياحي متميز

السباغنية.. غـوص في الطبيعـة وسفر إلى التاريخ

روبورتاج: أحمد حفاف

 لم يعد الطريق بين التجمّع السكني “مقطع لزرق” الواقع في أسفل سفوح جبال بلدية حمام ملوان، ومنطقة “السباغنية” بمرتفعات هاته البلدية، مسارا يجسّد التنمية الريفية التي قطعت أشواطا مهمة فحسب، بل تحول إلى مسار سياحي متميّز ومن الطبيعي أن يدرج ضمن المنصة التي تضمّ أهم المواقع السياحية في بلادنا.

 ما يميز هذا المسار السياحي أنه يجمع بين أنواع مختلفة للسياحة، فيمكن استغلال فضاءاته الطبيعية في السياحة الترفيهية ونقصد الاستجمام والسباحة في المياه العذبة الصافية التي تهبط من أودية “الشريعة”، “بومعال” و«لاخرة” وتتقاطع في “مقطع لزرق” مشكلة حوض واد حمام ملوان، الذي يصب هو الآخر في واد الحراش.
كما يجذب هذا المسار هواة سياحة المغامرات، حيث صار مؤخّرا مكان مفضلا لهؤلاء الشباب الباحثين عن الراحة النفسية بالغوص في أعماق الطبيعة، حيث يسافرون بشكل جماعي ويحطون الرحال في “مقطع لزرق”، ثم يكملون سيرهم مشيا على الأقدام نحو أماكن بعيدة مثل “القلتة الزرقاء” عبر واد “بومعال” أو “كاف الشوادا” عبر واد “لاخرة”، ومنهم من يسلك الطريق نحو المنطقة المسماة “يما حليمة”. كما يقصد هذا المسار أيضا وفود طلابية يرغبون في إنجاز بحوثهم العلمية حول الثروة النباتية والحيوانية، التي تزخر بها غابات المنطقة باعتبارها جزء من حظيرة الوطنية للشريعة المحمية دوليا.

التنمية الريفية.. خطوات استباقية

 عرفت المنطقة في العقدين الأخيرين تجسيد مشاريع تنموية أبرزها تعبيد الطريق بين “مقطع لزرق” و«السباغنية” فضلا عن تأهيل مسالك ترابية وشقّ أخرى جديدة وسط الغابات لتسهيل تنقل سكان الجبال وتشجيعهم على العودة إلى أراضيهم، التي هجروها في فترة التسعينات، وبالفعل عاد المئات منهم تدريجيا وأنجزوا مستثمرات فلاحية في تربية الحيوانات والزراعة.
وقد شكّل تعبيد الطريق نحو “السباغنية” خطوة استباقية نحو تطوير السياحة، والتي تضاف إلى التحسين الحضري للتجمّع العمراني “مقطع لزرق” وملعبه الجديد، الذي يمكن أن يتحول إلى مركز تحضيري لأندية النخبة، ونجم عن هذا التطور انجذاب السياح أكثر في الفترة الأخيرة، كما لفت ذلك انتباه السلطات المحلية فاقترحت إقامة منتجع سياحي في “يما حليمة”.
عندما نسير نحو “السباغنية “ التي ترتفع عن سطح البحر بـ1100 متر، نغوص في الطبيعة العذراء يصادفنا قطيع من الأبقار يزيد المكان رونقا وجمالا، ترعى أعشاب الطبيعة الخضراء قبل عودتها في المساء للإصطبلات التي تأويها، ويجسّد ذلك التنمية التي تحقّقت، وقد يفوق عدد الأبقار الألف رأس دون احتساب مواشي أخرى مثل الماعز، وهو ما يقوي الاقتصاد الوطني.
فضلا عن ذلك فقد استصلح بعض الشباب أراضيهم الوعرة وحولوها إلى بساتين للأشجار المثمرة وفي سابقة هي الأولى من نوعها وتمّ غرس أشجار الكرز، كما ينتجون خضراوات عضوية من دون استخدام المواد الكيماوية التي تضر بصحة الإنسان، ويرتقب أن يزدهر هذا النشاط أكثر في المستقبل القريب، ذلك أن مديرية المصالح الفلاحية لولاية البليدة تسعى لتحقيق مطلبهم بتوفير الطاقة ودعم في إنجاز أحواض السقي أين يقومون بجمع مياه الينابيع المنتشرة بكثرة في الأطلس البليدي.

زاوية “بني ميصرا” ومقبرة الشهداء

 قبل الوصول إلى “السباغنية” التي يفصلها عن حدود ولاية المدية بضعة كيلومترات جنوب البليدة، سلكنا على اليمين طريقا ترابيا يؤدي إلى زاوية “بني ميصرا” الشهيرة، والتي كانت مدرسة قرآنية بل مؤسسة دينية ربت الأجيال على العقيدة الصحيحة وقاومت كل محاولات طمس الهوية الوطنية في فترة الاستعمار الفرنسي.
يفصل زاوية “بني ميصرا” الواد عن منطقة “يما حليمة” التي كانت آهلة بالسكان، فاستحضرنا الفترة التي كانت فيها تدرّس أبنائهم القرآن واللغة العربية لتخرجهم من قوقعة الأمية، بل كانت البديل لهم بعدما حرمتهم فرنسا من التمدرس، فحتى الإقامة بالجبال لم يكن خيارا لهم بل فرضته سياستها الاقتصادية المبنية على اغتصاب أراضي الجزائريّين.
زاوية بن ميصرة الشهيرة هي بناية عتيقة تُشبه المنازل المبنية في الفترة العثمانية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهي بحاجة إلى ترميم لتصبح معلما تاريخيا يروي للأجيال القادمة ماضي أجدادهم وتاريخهم المجيد، ومن ثمة تُدرج ضمن مسار سياحي تاريخي ضمن الجهود التي تُبذل لتعزيز الذاكرة الوطنية.
تركنا زاوية “بني ميصرا” ونحن نتذكر ما كتبه أستاذ التاريخ في جامعة “لونيسي علي” بالعفرون، بن يوسف تلمساني، حول قبائل البليدة الذين كانوا أول ما قاوم فرنسا في سهل “المتيجة” بعد دخول جيشها من سيدي فرج بالعاصمة، وقبيلة “بني ميصرا” واحدة منهم.
واصلنا سيرنا وارتفعنا أكثر حتى وصلنا إلى القمة وقابلنا جبال الشريعة الواقعة يمينا وجبال العيساوية التابعة لولاية المدية يسارا، في مكان يعج بأشجار البلوط وقليل من التوت البري وبعد بضعة دقائق وصلنا إلى “السباغنية”، التي أصبحت مهجورة بعد نزوح سكانها نحو المدن مثل بوقرة التي تعتبر الدائرة الإدارية لحمام ملوان.
والتقينا كهلا في عقده الخامس يعود من الفينة إلى الأخرى إلى هذا المكان الذي ولد فيه وترعرع فيه، وحسبه فقد كانت عشرات العائلات تعيش هنا في مكان هادئ وكانت تربطها روابط اجتماعية مهمة، وكانت تضمّ ملعبا تُجرى به دورات في رياضة العصي التي تشبه المبارزة بالسيف، وبحكم قربها من المدية فقد كان أهلها يقطعون الواد المقابل صوب أسواق شعبية قريبة-بحسب تعبيره.
استحضر هذا الكهل ماضيه الجميل في “السباغنية” وأشار بأصبعه إلى مكان المقهى وسط “الدوار” أي الحي السكني الذي كان يلتقي بها السكان ويناقشون شؤونهم، وفي معرض حديثة استعمل مصطلح “زديخة” ويقصد به الأرض الغابية أو الجبلية المستصلحة لأجل الزراعة.
تضم “السباغنية” أيضا مدرسة قرآنية ومسجد تمّ ترميمهما في السنوات الأخيرة، ما يعكس تسلّح السلف الجزائريّين بالعلم ومقاومتهم لسياسة التجهيل التي انتهجتها فرنسا، وبمحاذاتهما تقع مقبرة الشهداء التي دفن بها شهداء ثورة التحرير المجيدة التي اندلعت في ثورة أول نوفمبر 1954.

معركة السباغنية.. بسالة الجزائريين

 لقد كانت “السباغنية” التي تبعد عن حمام ملوان بـ25 كيلومترا جنوبا، منطقة لعبور المجاهدين الجزائريين خلال ثورة التحرير، وبها سقط 27 طالبا في الميدان الشرف كانوا في طريقهم للالتحاق بالكفاح المسلّح في الجبال، في 22 فيفري من عام 1957 لما اجتمع ما يقارب 400 طالب من خريجي الزوايا وقليل ممّن حظوا بالتعلّم في المدارس الفرنسية، وقرّروا التوجه نحو معاقل جيش التحرير الوطني لتدعيمه في مواجهة العدو الفرنسي وتحقيق استقلال الجزائر.
بحسب شهادات حية لمجاهدين عايشوا هذا الحدث التاريخي، فقد أوكل قادة الثورة مهمة الإشراف على هؤلاء الطلبة إلى الشهيد القائد الطيب سليماني المدعو سي زوبير، الذي كان يشرف على كومندو بالمنطقة الثانية للولاية التاريخية الرابعة، والذي قبل المهمة رغم صعوبة التنقل إلى المكان المتفق عليه.
تجاوز هؤلاء الشهداء جل العقبات بما فيها التضاريس الصعبة، إلى أن اكتشف العدو أمرهم وباغتهم بـ15 مروحية من نوع “سيكورسكي” محملة بعدد كبير من الجنود، ما جعل الشهيد سي زوبير، بعد إدراكه للخطر المحدق بهم إلى مطالبتهم بالانقسام إلى أفواج والتوجه فورا نحو الجبل عند بداية الهجوم الفرنسي، ليقوم هو بكل بطولة بتغطية هروبهم بمهاجمة المروحيات التي أنزلت المئات من الجنود الفرنسيين بدوار سباغنية.
وكغيره من أبطال الثورة التحريرية الشجعان، قام سي الزوبير بمواجهة الجنود الفرنسيين لوحده لتأخير تقدمهم ولتمكين الطلبة من التوغل في الجبال والإبتعاد. ولم تذهب تضحيته هباء، إذ نجا من الموت جل الطلبة والتحقوا بالثورة باستثناء 27 استشهدوا وكانت بينهم فتاة طالبة واحدة.
وبعد مقاومة كبيرة، سقط سي الزوبير هو الآخر في ميدان الشرف بعد إصابته برصاصة خلال مواجهته للعدو وقدم حياته من أجل أن يلتحق مئات الطلبة بالثورة. وقد دفن شهداء معركة سباغنية بمكان استشهادهم، وفي سنة 1980 أعيد دفن رفاتهم بمقبرة الشهداء الموجودة بنفس المنطقة.
وفي السنوات الأخيرة تمّ إدراج معركة السباغنية في 22 فيفري 1957 ضمن الأعياد المحلية من قبل لجنة علمية مختصة، حيث تُحييها السلطات المحلية سنويا، وهذا ضمن تعزيز الذاكرة الوطنية والحفاظ عليها، كما تمت تسمية المدينة الجديدة بوعينان باسم الشهيد محمد الطيب سليمان أحد الطلبة الذين سقطوا في معركة السباغنية.

”يمّا حليمة” تتوق لماضيها الجميل

 تظهر جليا أهمية المسار السياحي “مقطع لزرق” - “السباغنية” فهو يتيح للسياح السفر إلى الطبيعة والتاريخ معا ويمزج بين السياحة البيئية أو الجبلية مع التاريخية والثقافية، فزاوية “بني ميصرا” كانت مركز اشعاع ثقافي، ومعركة السباغينة ستظل شاهدة على بطولات الشعب الجزائري ومقاومته لنيل الحرية.
زيادة على ما سبق ذكره فقد تشكّل تنمية منطقة “يما حليمة” خطوة نحو تدعيم هذا المسار، خاصة وأنّ بلدية حمام ملوان تتوافر على نظام بيئي ملائم للاستثمار في السياحة، فهي تضم محطة حموية ومحلات تجارية لبيع المنتجات الحرفية والأكلات التقليدية.
في هذا الإطار علمنا أنّ السلطات المحلية اقترحت إعادة تهيئة المدرسة الابتدائية المهجورة في “يما حليمة” وتحويلها إلى مرفق سياحي، وقد يكون ذلك خطوة مهمة نحو استعادة ماضيها الجميل الذي عرفت خلاله ربطها بشبكة الكهرباء في الثمانينات كما أنها كانت تتوفر على مكتب بريد وقاعة علاج.
ولا تبعد “يما حليمة” عن “مقطع لزرق” سوى ببضعة كيلومترات، ويمكن ربطها بمصعد هوائي نحو زاوية “بني ميصرا” المقابلة لها، ويبقى هذا حلما قابلا للتجسيد تماشيا مع سياسة الدولة لتشجيع الاستثمار خارج قطاع المحروقات بغرض تنويع الاقتصاد الوطني.
 ولعل ما يجسّد ذلك هو أن المرسوم التنفيذي الجديد 25-200 المتضمّن جرد الثروات الغابية واستدامتها والتنمية الغابية، ينص على إشراك سكان المناطق الريفية والجبلية في حماية الغابات من الحرائق، حيث يوفر لهم الدعم اللازم لمزاولة أنشطتهم الفلاحية ويشجّعهم على العودة إلى أراضيهم لخدمتها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19855

العدد 19855

الخميس 21 أوث 2025
العدد 19854

العدد 19854

الأربعاء 20 أوث 2025
العدد 19853

العدد 19853

الثلاثاء 19 أوث 2025
العدد 19852

العدد 19852

الإثنين 18 أوث 2025