يحتفـظ بأروع ما سطــّر الأحـرار الجزائريـون من ملاحـم بطوليـة

جبـل بوكحيـل ..ذاكرة مضمخة بعبق البارود

الجلفة: موسى دباب

بين ولايات الجلفة، المسيلة، أولاد جلال وبسكرة، تمتد سلسلة جبل بوكحيل كذاكرة مفتوحة على فصول من الكفاح والمقاومة، وكسجل حي لتاريخ دونته الوثائق، وأكدته الشهادات، ونقشته الطبيعة على جغرافيا شاهدة. هنا، حيث تقاطعت مسارات المجاهدين والعلماء والحجيج، تتجلى صفحات من الوطن، رسمتها الأقدام على الصخور، وكتبها البارود في العواصف..في هذا الربورتاج، تنقل “الشعب” شهادة الأرض والذاكرة، من قلب بوكحيل، حيث تتعانق التضاريس بالبطولة، وتتكامل الزوايا بالبارود، لتكتب إحدى أنقى صفحات الجزائر المحررة.

يصف الدكتور المسعود بن سالم، أستاذ بجامعة الجلفة، في تصريح لـ«الشعب” أن بوكحيل ليس مجرد جبل، بل سلسلة من القمم والأودية والعيون والمراعي، تنبسط بين ولايات الجلفة والمسيلة وأولاد جلال وبسكرة، وتمتد لتشكل وحدة طبيعية فريدة تعرف باسم “سلسلة جبال بوكحيل”.
هذه المنطقة - يقول بن سالم - “تمثل كينونة جبلية مترامية تجمع بين الذاكرة المكانية والتنوع السوسيو - اقتصادي المرتبط بمعيشة الجبل”. وضمن هذه السلسلة، تنتشر بلدات قديمة وبلديات حالية، سواء داخل الكتلة الجبلية أو على سفوحها الشمالية والجنوبية، مما يمنح المكان طابعا سكانيا وعمرانيا عريقا ما يزال حيا إلى اليوم.

”الكحيــل”..أو البارود العربـي

وحول أصل التسمية، يرجح الدكتور المسعود بن سالم أن اسم “بوكحيل” مستمد من “الكحيل”، وهو الإسم الشعبي الذي يطلق في المنطقة على البارود العربي، مؤكدا أن هذا التفسير مدعوم بروايات شفهية وأدبية محلية. ويذكر أن الشاعر الشعبي بلخيري الطاهر بن سعد لفت انتباهه إلى هذا المعنى، مستشهدا بأبيات شعرية قديمة تصف جودة “الكحيل” المستعمل في الصيد والحرب، ومشيرا إلى أن أهل المنطقة كانوا يجمعون ملح البارود من تجاويف معروفة في بوكحيل. كما يشير إلى نبات “الدفلى” المنتشر في الجبل، والذي يستخرج من خشبه أجود أنواع الفحم الخاص بصناعة البارود، وهو دليل مادي يعزز الرواية.
ويورد المتحدث كذلك رواية ثانية تفيد بأن الاسم مرتبط بعصفور صحراوي أسود يعرف محليا باسم “كحيل”، وهو تصغير لكلمة “أكحل”، وقد ورد ذكر هذا الطائر في كتاب “دراسة حول التيطري” للمؤرخ الفرنسي “ألكسندر جولي” سنة 1906، حيث وصفه بأنه ينتمي إلى الحيوانات الصحراوية ويعيش بين الصخور، ويسميه الأهالي “كحيل الحجر”. ورغم تعدد الأوجه في تفسير الإسم، إلا أن الدكتور بن سالم يميل بوضوح إلى فرضية البارود كمرجعية أصيلة، قائلا إن “الإسم يختزن في ذاكرة البدو كمادة مقاومة، لا كلون أو طائر”.
وتضم سلسلة جبل بوكحيل 15 بلدية موزعة على أربع ولايات، هي ولاية الجلفة (المجبارة، سلمانة، فيض البطمة، عمورة)، ولاية المسيلة (عين الريش، سيدي امحمد، بن سرور، محمد بوضياف “واد الشعير”، أولاد سليمان، الزرزور، عين فارس)، ولاية أولاد جلال (الشعيبة، راس الميعاد، البسباس)، ولاية بسكرة (طولقة). وكلها تنتمي إلى قبائل العرب الأدارسة، وبنسبة كبيرة إلى قبيلة أولاد نايل عروشيا.
وتتميز هذه المنطقة بعديد مواقع الاستقرار القديمة مثل قصر عين السلطان، قصر عمورة، وقرى على سفوح الجبل منها “قمرة” و«عبد المجيد”، وكلها شواهد حية على حياة امتزجت بالجبال والعيون والمراعي.
ويمتد بوكحيل على طول أقصاه 160 كلم، بعرض يصل إلى 21.86 كلم في تراب فيض البطمة وعمورة. وقد قسمت هذه السلسلة إلى ثلاث كتل كبرى وامتدادين، بإجمالي مساحة يفوق 1960كم²، لتشمل الكتلة الأولى مساحة أكثر من 880 كم²، والثانية ما يفوق 386 كم²، والثالثة أكثر من 238 كم²، إضافة إلى امتدادين شمالي وجنوبي بمساحة تقارب 455 كم². وينقل الكتور بن سالم عن كبار الشيوخ قولهم إن الطرف الغربي الأقصى للسلسلة هو قمة شنوفة المقابلة لمدينة مسعد، بينما ينتهي الطرف الشرقي عند أولاد رحمة، وبالضبط عند الطريق الوطني رقم 46أ في شقه الرابط بين قرية بير النعام باتجاه مدوكال.
وجاء في ربورتاج تلفزيوني أنجزه المخرج بن جدو عطاء الله، اعتمادا على شهادات علمية لمجموعة من الأساتذة والدكاترة بينهم البروفيسور محمد القن، والدكتور قرود والدكتور سويسي، أن جبل بوكحيل لم يكن مجرد تضاريس شاهقة أو فضاء طبيعيا مهيبا، بل شكّل معقلا استراتيجيا احتضن ملامح المقاومة في المنطقة، منذ العهد العثماني ومرورا بالمقاومات الشعبية إلى غاية الثورة التحريرية الكبرى. وكان هذا الجبل ملاذا آمنا للثوار، وموطنا للزوايا والعلماء، ومحورا مهما في رسم معالم الدولة الوطنية.

بوكحيـل..معــبر الحجـاج وموطن العلماء

كان جبل بوكحيل على مر القرون معبرا لقوافل الحجاج، وملتقى للعلماء والرحالة، حتى أضحى محطة ثابتة في كتب الرحلات الحجازية التي وثقت طريق القوافل إلى مكة المكرمة. وتعد قرية “عبد المجيد” الواقعة ضمن سلسلة بوكحيل، من المحطات المهمة في هذا الطريق، حيث ذكرها عدد من الرحالة مثل يوسي، الدرعي، العياشي..حيث أورد الرحالة الدرعي في القرن الثامن عشر، ومعه الحضيكي والعامري والناصري، إشارات دقيقة إلى “دمد” و«عيون سلمانة” و«عيون البرج” و«عيون السلطان”، ووصفوا منطقة “عمورة العارمة” الواقعة على سفوح الجبل، مشيرين إلى ما تحتويه من بساتين، وما يتميز به أهلها من كرم ووفاء وتقدير بالغ للرحالة الحجازيين.
وفي القرن التاسع عشر، وصف الرحالة التنيلاني قبائل أولاد نايل وسكان المنطقة بأنهم “بيت رحمة، حملة للقرآن، أهل كرم وصلاة وزكاة”، وأنهم كانوا يقدسون الحج، ويقدمون يد المساعدة للحجيج.
وقد أسهمت هذه الرحلات الحجازية التي وثقت مرورها من بوكحيل، في تقديم صورة واضحة عن الحاضر الاجتماعي والفكري والاقتصادي للمنطقة، وما تحمله من معالم وشواهد تدل على رسوخها الحضاري.
ولا تقل أهمية ما دونه الرحالة المستشرقون، وعلى رأسهم الإنجليزي “توماس شو”، الذي وصف منطقة بوكحيل بتفاصيل دقيقة، متوقفا عند زكار، فيض البطمة، دمد، عمورة، وقمرة، في كتابه الذي صدر سنة 1738، مشيرا إلى تنوع الواقع الاقتصادي والفكري فيها، وما تحويه من ثروة غنيمة ومراعي خصبة. وقد أجمع الرحالة من حجازيين ومستشرقين على أن بوكحيل وحواضره تمثل شاهدا حيويا على حضارة ممتدة، وتراث زاخر لا يزال يحتفظ بصدى الذاكرة الجماعية.

 مـــلاذ الثـوار وقلعــة المقاومـة

على امتداد القرنين 19 و20 قلعة حقيقية للمقاومة، كان بوكحيل ملاذا لكل ثوار المنطقة، ممن احتموا بمرتفعاته الوعرة وممراته السرية. ويذكر البروفيسور “القن” ثلاث محطات مفصلية تجسد الأبعاد الثورية لهذا الجبل في سياقين مختلفين: المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة.
في فترة الأمير عبد القادر، وتحديدا عام 1836، بايعه سكان الجبل في منطقة “الكرمونية”، وهو ما شجعه على التوغل في عمق “بوكحيل” في العام الموالي 1837، حيث التقى الشيخ محمد زبدة، مقدم عرش أولاد أم الإخوة. وقد كانت هذه الزيارة مفصلية، إذ مكنته من الاطلاع على خصائص المنطقة والتأكد من ولاء أهلها. وفي مارس 1846، زار الأمير منطقة عين الكحلة 70 كلم شمال غرب بوكحيل، حيث استفاد من مؤونتها ورجالها وسلاحها. وبعدها بشهر، في أفريل 1846، وعقب تحرك الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال “جوزيف فانتيني” المعروف بـ«الجنرال يوسف”، اتجه الأمير إلى طلب الدعم مجددا من سكان بوكحيل، خاصة في مناطق عمورة، دمد، زكار، ومسعد، الذين احتضنوه ووفروا له الدعم اللوجستي، والدليل على ذلك وجود دار المؤونة في مسعد، التي كانت مركزا لتخزين الإمدادات. لكن هذا الدعم جر على السكان مطاردات عنيفة من طرف القوات الفرنسية.
أما النموذج الثاني، فهو انتفاضة أولاد الإخوة في 12 أكتوبر 1854، إحدى أبرز الانتفاضات الشعبية المحلية التي فجرها أبناء القبيلة المنتمية إلى أولاد عيسى، الممتدة من مسعد إلى عين الريش، بوسعادة، بسكرة وتقرت. وقد شن هؤلاء هجوما عنيفا قتل خلاله الضابط الفرنسي “ديبوا غيلبيرت”، ثم انسحب المقاومون جنوبا إلى جبل بوكحيل، ليحتموا به من ملاحقة الجيش الفرنسي الذي لاحقهم إلى عمق الجبل.
ويبرز النموذج الثالث في سيرة الشيخ موسى الحسن الدرقاوي الذي أعلن المقاومة غير بعيد عن جبل بوكحيل، وبالضبط في مسعد سنة1831 قبيل انتقاله إلى رباطه العسكري في “عين الخضرة”، جبل قطية بالشارف سنة 1834، 50 كم غرب مدينة الجلفة، لتنطلق من هناك وتعم ربوع الوطن. وقد طارده الجنرال يوسف، فانتقل من مسعد إلى بني يعلى بمنطقة القبائل الصغرى سنة 1848، ثم إلى متليلي الشعانبة، قبل أن يستقر به الجهاد في الزعاطشة، حيث سقط شهيدا في نوفمبر من سنة 1849. واستمرت المقاومة بعده، مع التلي بلكحل وأولاد طعبة سنة 1852 في جبل الدخان إلى أولاد ملخوة سنة 1854، والطيب بوشندوقة سنة 1861 وانتفاضات سنة 1864 التي انتهت بقمع سحاري أولاد إبراهيم على يد الجنرال ديكرو في نوفمبر من نفس السنة في جبل “قعدة السحاري”، وصولا إلى انتفاضات سنة 1871 أين تحصّن قائد أولاد عيفة “أحمد بن المكي” في بوكحيل، وهكذا فإن جميع هذه المقاومات ارتبطت بجبل بوكحيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وقد لعبت الزوايا دورا محوريا في دعم هذا المسار، فكانت الحاضنة الروحية والوطنية للمجاهدين، لا سيما خلال القرن 19، أين شكلت صمام أمان للهوية الوطنية. وانتشرت في ربوع بوكحيل العديد من الزوايا التي استقطبت الطرق الصوفية الكبرى، بحكم الموقع الجغرافي المتميز وقربها من منارات العلم والجهاد، مثل الزاوية المختارية بأولاد جلال، وزاوية الهامل، وزاوية طولقة.

اسـتراتيجيـة الاحتــلال العسكـري في بـــلاد أولاد نايــــل

لم تكن بلاد أولاد نايل، بما فيها سلسلة جبال بوكحيل، بمعزل عن آلة الغزو الفرنسي، بل كانت هدفا مباشرا للاستراتيجية العسكرية التي رسمتها سلطات الاحتلال منذ أربعينيات القرن التاسع عشر. وقد تمثلت هذه الاستراتيجية في سلسلة من الحملات العسكرية المتتالية، التي استهدفت إخضاع القبائل ومراقبة الامتداد الجبلي، لما يشكله من تهديد دائم للمصالح الاستعمارية، خاصة في ظل احتضانه للثوار والمجاهدين.
بدأت هذه الحملات سنة 1843، وتوالت بشكل مكثف، منها حملة “ماري مونج” الأولى والثانية سنة 1844، ثم الثالثة سنة 1845، تلتها حملة العقيد “كامو” في سنة 1846 التي استهدفت الشمال الشرقي لولاية الجلفة، ثم جاءت الحملة الضخمة والشهيرة التي قادها الجنرال يوسف سنة 1846، والتي امتدت من منطقة “كريرش” خلال مطاردة الأمير عبد القادر إلى قلب جبال بوكحيل، لتشمل بعدها مناطق بوسعادة عقب انتفاضة موسى بن الحسن الدرقاوي ومعركة الزعاطشة.
وقد تناولت هذه الاستراتيجية عدة مراجع بحثية، أبرزها كتاب إبراهيم مياسي بعنوان “توسع الاحتلال الفرنسي ناحية الجنوب الشرقي”، وأعمال البروفيسور التلمساني التي تناول فيها “توسع الاحتلال في السهول الوسطى”، بالإضافة إلى أطروحة الدكتور السنوسي حول “توسع الاحتلال في بلاد أولاد نايل”، التي قدمت قراءة معمقة في آليات الهيمنة الفرنسية على المناطق الوسطى ذات الطابع الجبلي. وأهم مرجع تناول هذه الفترات الحرجة كان الكتاب الجماعة “مقاومة موسى الدرقاوي” الذي صدر سنة 2018.

 القلب النابـــض للولايـــة السادســة

شهد بوكحيل إرهاصات الثورة التحريرية منذ عامها الأول، حين التحق أبناؤه بصفوف جيش التحرير الوطني سنة 1954 ضمن الولايات الأولى والثالثة والرابعة. وفي جويلية 1955، قرر قادة الأوراس تحويل بوصلة الكفاح نحو المناطق الصحراوية، فكانت سلسلة بوكحيل إحدى أبرز محطات هذا التوسع الاستراتيجي، باستقبالها لوفود وقادة كبار، على رأسهم “سي الحواس”، ما مهد لتأسيس نواة الولاية السادسة.
وقاد المجاهد زيان عاشور العمل المسلح في بوكحيل والمناطق المجاورة، فشهد الجبل معارك ضارية أربكت الاحتلال الفرنسي، وأعلنت ميلاد المقاومة المنظمة بالجنوب.
وبلغت حصيلة المعارك الموثقة أكثر من 23 معركة، إلى جانب عدد كبير من الكمائن والاشتباكات والهجومات على المراكز الثابتة للعدو، منها “غفسة” شهر مارس 1956، معركة “قزران” من 05 إلى06 ماي 1956، معركة “واد خلفون” خلال سنة 1956، “جبل الخدان” في 11 نوفمبر 1956، “جبل الجديدة” في 12 نوفمبر 1956، “محارقة 17” نوفمبر 1956، جبل “النسنيسة” 09  ديسمبر 1956، “قلب العرعار” خلال شهر أفريل 1957، “جبل ميمونة” 25 نوفمبر 1957، “معركة جديدة” خلال أفريل 1958، “قلب الحلفاء” في أكتوبر 1958، “فايجة العرعار” 13 نوفمبر 1958، “معركة التوميات” 02 سبتمبر 1960، معركة عين الصفراء 19 ماي 1960، “الكرمة وجريبيع” من 17 إلى 18 سبتمبر 1961 ودامت 48 ساعة بقيادة المجاهد محمد شعباني، فكانت بمثابة “رصاصة الرحمة” في وجه المشروع الاستعماري الرامي إلى فصل الصحراء عن الجزائر، وأكدت للعالم أن الصحراء جزء لا يتجزأ من الوطن، ما عزز موقف الوفد الجزائري المفاوض.
وخلد أبناء بوكحيل أسماءهم في ملحمة نوفمبر، على غرار العقيد أحمد بن الشريف في الولاية الرابعة، الشهيد زرنوح محمد في الولاية الثالثة، والشهيد حليس محمد بالولاية الأولى، وابن منطقة بوكحيل بفيض البطمة المجاهد الحاج البشير بن موفقي، رفيق الشهيد الطالب العربي، في معارك الحدود التونسية، إضافة إلى عدد من المجاهدين من الكتيبة الثامنة للفيلق الميداني الثالث بالقاعدة الشرقية.
وهكذا يكون جبل بوكحيل قد شكل طوال سنوات الثورة، مساحة مقاومة لا تهدأ، وفضاء تتكامل فيه الجغرافيا مع التاريخ والرجال، في معركة التحرير الخالدة

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19842

العدد 19842

الأربعاء 06 أوث 2025
العدد 19841

العدد 19841

الثلاثاء 05 أوث 2025
العدد 19840

العدد 19840

الإثنين 04 أوث 2025
العدد 19839

العدد 19839

الأحد 03 أوث 2025