الترجمة في عصـر الذكـاء الاصطناعــي

نحو الجمع بين سرعة الآلة وخبرة البشر

أسامة إفراح

يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة كبيرة في مجال الترجمة، عبر توفير أدوات قادرة على معالجة كميات ضخمة من النصوص بأقل وقت وجهد وتكلفة. وباستخدام تقنيات مثل الشبكات العصبية والترجمة الآلية العصبية، يقدم الذكاء الاصطناعي ترجمات أسرع، وأدقّ.. مع ذلك، لم يتمكّن من استبدال المترجمين البشر بالكامل، خاصة وأنه يواجه تحديات في فهم الفروق الثقافية الدقيقة والسياقات الخاصة، بالإضافة إلى اللغات النادرة.. ليكون الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة مهمة للمترجمين، إذا وظفه هؤلاء ضمن أساليب هجينة لتحسين جودة النصوص المترجمة.
في الثلاثين سبتمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي للترجمة، أو “اليوم الدولي للترجمة” وفقا للتعبير الدقيق الذي تستعمله منظمة الأمم المتحدة.
وحسب هذه الأخيرة، فإن المراد بهذا اليوم هو “إتاحة الفرصة للإشادة بعمل المتخصصين في اللغة، الذين يلعبون دورًا مهمًا في التقريب بين الدول، وتسهيل الحوار والتفاهم والتعاون، والمساهمة في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين”. وتضيف المنظمة: “إن نقل العمل الأدبي أو العلمي، بما في ذلك العمل الفني، من لغة إلى لغة أخرى، والترجمة المهنية، بما في ذلك الترجمة المناسبة والتفسير والمصطلحات، أمر لا غنى عنه للحفاظ على الوضوح والمناخ الإيجابي والإنتاجية في الخطاب العام الدولي والتواصل بين الأشخاص”.
وتِبعا لذلك، اعتمدت الجمعية العامة، في 24 ماي 2017، القرار 71/288 بشأن دور المتخصصين في اللغة في ربط الدول وتعزيز السلام والتفاهم والتنمية، وأعلنت يوم 30 سبتمبر يومًا دوليًا للترجمة (مع الإشارة إلى احتفال الاتحاد الدولي للمترجمين بهذا اليوم لأكثر من 35 عامًا). وقد اختير هذا اليوم احتفالا بعيد القديس جيروم، مترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية، وقد كان كاهنًا من شمال شرق إيطاليا، وتوفي بالقرب من بيت لحم (فلسطين) في 30 سبتمبر 420 ميلادية.

موضـوع الساعـة

يختار الاتحاد الدولي للمترجمين (FIT)، سنويا، موضوعا للاحتفال باليوم العالمي للترجمة. وقد اختير لهذا العام 2025 موضوع “الترجمة: تشكيل مستقبل يمكن الوثوق به”.
وفي إعلانه، قال مجلس الاتحاد على موقعه الإلكتروني إن هذا الاختيار مستوحى من كل من “السنة الدولية للسلام والثقة” التي أقرّتها الأمم المتحدة، وموضوع مؤتمر الاتحاد للعام الجاري بعنوان: “إتقان الآلة: تشكيل مستقبل ذكي”.
وأضاف الاتحاد الدولي للمترجمين: “في أوقات مضطربة، حيث يتأرجح السلام بين الوجود والانهيار، وتخترق الشكوك التواصل والعلاقات العالمية، يسلّط موضوع عام 2025 الضوء على الدور المحوري للثقة الإنسانية، وتحديدًا دور المترجمين والمترجمين الفوريين والمصطلحيين في ضمان تواصل موثوق، وبناء الحوار والثقة بين الأطراف، ومراقبة المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية”.
وأضاف: “وفي قرارها بإعلان عام 2025 “السنة الدولية للسلام والثقة”، أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مجددًا على الحاجة إلى الوقاية من النزاعات وتسويتها عبر الحوار والدبلوماسية. ورغم أن المترجمين الفوريين في المفاوضات العالمية قد لا يكونون مرئيين للعامة، إلا أننا ندرك تمامًا أن مثل هذه المحادثات الحساسة لا يمكن أن تتمّ دونهم، وبالتأكيد لا يمكن أن تُوكل إلى التكنولوجيا وحدها”.
ويتضح جليا تركيز ثيمة هذا العام على الدور الذي تلعبه التكنولوجيا، وبالأخص الذكاء الاصطناعي، في مستقبل الترجمة، والآثار التي يمكن أن تترتب عن ذلك في مختلف المجالات ذات العلاقة بالترجمة، وإن خُصّت بالذكر الدبلوماسية والنزاعات الدولية.
قبل ذلك، كان موضوع العام الماضي “الترجمة فن يستحق الحماية” قد سلّط الضوء، هو الآخر، على زاوية أخرى من العلاقة بين الترجمة والذكاء الاصطناعي، وهي حقوق التأليف في العصر الرقمي.
وعالج الموضوع الاعتراف بالترجمات باعتبارها أعمالا إبداعية أصلية في حد ذاتها، تستحق الاستفادة من الحماية بموجب “اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية”. وباعتبارهم منشئي أعمال مشتقة، ناضل المترجمون لحماية حقوقهم المعنوية في الحصول على الفضل عن أعمالهم الترجمية، والتحكم في أي تغييرات تطرأ على هذا العمل، والحصول على أجر مناسب. “إن حماية هذه الأشياء البسيطة من شأنها أن تضمن مستقبلًا مستدامًا لمحترفي الترجمة والفن التاريخي للترجمة نفسه”، وفقا للاتحاد الدولي للمترجمين، مضيفا أن القضايا المتعلقة بحقوق التأليف والنشر تمتد إلى جميع مجالات المهنة، بما في ذلك استخدام الترجمات في القطاع الثقافي والترجمة الأدبية والنشر والترجمة القانونية.
ومع تطوّر الذكاء الاصطناعي وتوسّع المجال الرقمي، زادت آثار حقوق المؤلف على المترجمين والمترجمين الفوريين وعلماء المصطلحات بشكل كبير. ويعد إسناد الترجمة في المجال الرقمي أمرًا بالغ الأهمية، بالإضافة إلى السماح للمترجمين بتلقي التقدير لجهودهم، فإنه يشير بوضوح إلى مصدر النص، وتحديده كمحتوى بشري وليس من إنتاج الذكاء الاصطناعي.

مزايـــا الترجمة الآليـــة

جذري هو التحوّل الذي أحدثه، ويُحدثه، الذكاء الاصطناعي في عالم الترجمة، بتقديمه، خاصةً من خلال الشبكات العصبية والترجمة الآلية العصبية (NAT)، ترجمات أسرع وأكثر دقة. وللترجمة الآلية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي مزايا ومحاسن عديدة، نذكر منها:
السرعة والحجم: يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي ترجمة آلاف الكلمات في ثوانٍ، ومعالجة كميات كبيرة من النصوص أسرع بكثير من الإنسان.
تعتمد أنظمة الترجمة الآلية مثل Google Translate وDeepL على نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة تُعرف باسم Transformers، وهي قادرة على التعامل مع ملايين الجمل يوميًا، ما يجعلها مثالية للمهام التي تتطلّب السرعة، كترجمة محتوى المستخدمين على وسائل التواصل أو دعم العملاء في الزمن الحقيقي. مثلا، يهدف مشروع No Language Left Behind الذي أطلقته شركة Meta إلى توفير أكثر من 25 مليار ترجمة يوميًا عبر منصاتها، من خلال أنظمة يمكنها التعامل مع مئات اللغات في الوقت الفعلي، وهذه السرعة تُعد ميزة حاسمة في سياقات مثل الطوارئ الإنسانية أو الترجمة الفورية لمحتوى المستخدمين.
التكلفة المنخفضة: غالبًا ما تكون الترجمة الآلية مجانية أو متاحة بتكلفة منخفضة، ما يجعلها في متناول الجميع.
توفر خدمات مثل Google Translate وMicrosoft Translator خدمات مجانية تتيح للمستخدمين من شتى الخلفيات الوصول إلى الترجمة دون دفع، مما يعزز الشمول الرقمي عالميًا. وحتى النسخ المدفوعة من أدوات احترافية (مثل DeepL Pro أو Amazon Translate) تُقدَّم بأسعار أقل بكثير من الاستعانة بمترجم بشري، ما يجعلها جذابة للشركات الناشئة أو الأفراد الذين لا يملكون ميزانية كافية.
إمكانية الوصول: يُمكن للذكاء الاصطناعي ترجمة مجموعة واسعة من اللغات، بما في ذلك الترجمات الفورية، مما يُسهّل التواصل، وقد أسهم الذكاء الاصطناعي في تقليص الفجوة اللغوية عالميًا، حيث أصبحت الترجمة متاحة للغات ذات عدد محدود من الناطقين مثل الزولو أو المالطية، وليس فقط اللغات العالمية. كما تمّ تطوير تطبيقات تمكّن المستخدمين من إجراء محادثات فورية مع أشخاص لا يتحدثون لغاتهم، في السياحة، الرعاية الصحية، والتعليم.
التحسين المستمر: تستمر أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على التعلم العميق في التحسن، من خلال تحليل مجموعات بيانات النصوص الضخمة.
تستخدم أنظمة مثل OpenAI’s GPT تقنيات التعلم العميق لتحليل مليارات الجمل والأنماط اللغوية، مما يتيح لها تحسين الفهم والسياق بمرور الوقت. مثلًا، طوّرت DeepL نموذجًا قادرًا على تقديم ترجمات أقرب للأسلوب البشري عبر تحليل التراكيب النحوية والسياقية، وليس فقط المعنى الحرفي. ومع ذلك، فإن هذا التحسين يعتمد على جودة البيانات المُدخلة؛ فالبيانات المنحازة أو المترجمة بشكل خاطئ قد تؤدي إلى أخطاء تتكرر وتتضخم مع الوقت.

الحـدود.. والحلـول

بالمقابل، قد يكون لاعتماد الذكاء الاصطناعي في الترجمة عيوب ومحاذير مختلفة، تحدّ من التوسع المفرط في توظيف التكنولوجيا في الترجمة، ولو إلى حين.
ومن هذه الحدود، نذكر ضعف الفهم السياقي والثقافي، إذ لا يستطيع الذكاء الاصطناعي استيعاب التفاصيل الثقافية الدقيقة، أو العادات المحلية، أو اللهجة المناسبة لجمهور مستهدف محدد، مما قد يؤدي إلى أخطاء.
كما نذكر مسألة الموثوقية والأخطاء، فعلى الرغم من تطور الذكاء الاصطناعي، إلا أنه ما يزال يرتكب أخطاءً قد تُغير معنى النص، لا سيما في مجالات متخصصة مثل القانون أو الطب.
ونشير أيضا إلى الأداء المتغير: حيث يكون الذكاء الاصطناعي أقل فعالية في اللغات أو اللهجات النادرة التي لا تتوفر لها بيانات تدريبية كافية.
أما العائق المتكرر ذكره، فهو غياب الخبرة البشرية، حيث لا يستطيع الذكاء الاصطناعي حتى الآن تقديم القيمة المضافة التي يوفرها المترجم البشري، مثل تحسين محتوى المواقع الإلكترونية بما يدعّم تحسين محركات البحث، وهو أمر ضروري لتعزيز الاستراتيجية التسويقية والأعمال.
ولمواجهة هذه نقائص، قد يكون الحل الأمثل هو استخدام الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة لدعم المترجمين، في مقاربة هجينة تجمع بين القدرات التقنية للترجمة الآلية، والكفاءة والخبرة البشرية.
ويكون ذلك بالتعاون بين الإنسان والآلة، بحيث يعمل الذكاء الاصطناعي كأداة دعم للمترجمين المحترفين، مما يُمكّنهم من العمل بكفاءة أكبر. أما مرحلة ما بعد التحرير، فتجمع المقاربة الهجينة فيها بين سرعة الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية، بحيث يُقدم الذكاء الاصطناعي مسودة أولى ثم يُراجعها بشري. تبقى مسألة التعويض المادي (الحقوق المالية)، وحسب هذه المقاربة الهجينة، يظل دور المترجم البشري أساسيًا للتحقق والتصحيح، لذا وجب تعويضه وفقًا لذلك، باعتبار أن مسؤولية الترجمة تقع عليه.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19883

العدد 19883

الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
العدد 19882

العدد 19882

الإثنين 22 سبتمبر 2025
العدد 19881

العدد 19881

الأحد 21 سبتمبر 2025
العدد 19880

العدد 19880

السبت 20 سبتمبر 2025