رؤيــة إستراتيجيـة تتجـاوز منطـق التبعيـة للمحروقات

الاقتصـاد الجديـد.. نمــوذج جزائري في خدمــة الأفارقـــة

علي مجالدي

 في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة والتقلّبات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، تمضي الجزائر بخطى واثقة نحو إعادة صياغة نموذجها الاقتصادي على أسس جديدة، مستندة إلى رؤية استراتيجية طموحة تسعى إلى تجاوز منطق التبعية للمحروقات، وفتح آفاق أرحب لبناء اقتصاد وطني متنوّع، منتج ومستدام. وترتكز هذه الرؤية على تحفيز الابتكار، وتشجيع الاستثمار، وتوسيع قاعدة الصادرات خارج قطاع الطاقة، بما يجعل من التجربة الجزائرية مختبراً عملياً لنموذج تنموي إفريقي رائد، قادر على أن يُستنسخ في باقي دول القارة.

 لا يقتصر المسعى الجزائري على خدمة أولوياتها الوطنية فحسب، بل يتعداه إلى تكريس نفسها كقاطرة إقليمية تحمل مشروعاً تنموياً يضع قدرات إفريقيا في صلب الحركية الاقتصادية العالمية، ويترجم تطلّعات شعوبها إلى العدالة الاجتماعية والازدهار المشترك.
توجّه استراتيجي ينبني على استغلال الموارد الطبيعية الوطنية بكل أنواعها المادية والبشرية، وجذب الاستثمارات الكبرى، وتفعيل ديناميكية التكامل بين القطاعات الزراعية، الصناعية، والمعدنية، بما يمكّن من خلق الثروة وتحقيق نسب نمو تصاعدية على المديين المتوسّط والبعيد. وتشير تقديرات رسمية إلى أنّ الجزائر تراهن على تحقيق معدل نمو اقتصادي يفوق 4% مع حلول 2030، اعتمادًا على تسريع وتيرة تجسيد المشاريع الكبرى.في هذا السياق، يأتي مشروع “بلدنا الجزائري” كمثال ساطع على انطلاقة فعلية لهذا التوجّه، حيث تمّ في جويلية 2025 توقيع عقود المرحلة الأولى من المشروع بقيمة تتجاوز 500 مليون دولار أمريكي، ضمن استثمار إجمالي يبلغ 3,5 مليار دولار.
وتتمثل هذه المرحلة في إنشاء مزارع ومصانع لإنتاج الحليب المجفّف، ما يمثل نواة لمجمّع زراعي صناعي متكامل يسعى إلى تقليص فاتورة الاستيراد وتعزيز الأمن الغذائي الوطني. كما أنّ المشروع يُجسّد البُعد الاجتماعي والاقتصادي في آن واحد، إذ انطلقت المرحلة الأولى من التوظيف بـ109 منصب شغل فعلي، تشمل تخصّصات تقنية وإدارية وفلاحية، موزّعة على عدة ولايات، وهذا التوظيف المحلي لا يمثل فقط استجابة لحاجيات المشروع، بل يُعيد بعث النشاط الاقتصادي في هذه المنطقة، ويساهم في تثبيت السكان وتحسين المستوى المعيشي. ومع التوسّع المتوقّع في المراحل المقبلة، يُرتقب أن يوفّر المشروع أكثر من 3000 منصب شغل مباشر وآلاف المناصب غير المباشرة، ما يُحوّل هذا الاستثمار الزراعي الصناعي إلى قطب تنموي متكامل يُساهم في امتصاص البطالة بالجنوب ويعزّز العدالة الاجتماعية.
وفي نفس السياق، تتواصل الديناميكية الاستثمارية في القطاع المنجمي، عبر إعادة مشروع منجم غارا جبيلات في تندوف، أحد أكبر مشاريع استغلال خام الحديد في إفريقيا. وقد شهد الأسبوع الأخير مباحثات متقدمة بين الجانب الجزائري وشركة MCC الصينية، لتطوير تقنيات معالجة الفوسفور الموجود في الخام، بما يسمح بتأهيله للتصنيع المحلي والتصدير. وتكتسي أهمية هذا المشروع طابعًا مزدوجًا، فمن جهة يعزّز استقلالية الجزائر في توفير المادة الأولية لصناعة الحديد والصلب، ومن جهة أخرى يفتح آفاقًا واسعة للتشغيل في منطقة تندوف، حيث يُتوقّع أنّ يولّد المشروع تدريجيًا مئات مناصب العمل المباشرة في التنقيب والمعالجة، إلى جانب شبكات تشغيل غير مباشرة في النقل والصيانة والخدمات الداعمة، ما يُحفّز الدورة الاقتصادية في واحدة من أكثر المناطق بعدًا جغرافيًا.كذلك، يبرز المشروع الزراعي الجزائري-الإيطالي بتيميمون، الذي دخل مرحلة التنصيب الفعلي منذ فيفري 2025، باستصلاح 36 ألف هكتار لإنتاج الحبوب والبقوليات والعجائن الغذائية. ويمثّل هذا المشروع شراكة بنحو 420 مليون دولار، بنسبة 51% للطرف الإيطالي و49% للجزائر ممثلة في الصندوق الوطني للاستثمار. ولا يقتصر أثر المشروع على تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح الصلب، بل يتعداه إلى إحداث تحوّلات اجتماعية واقتصادية محلية، إذ يُرتقب أن يُحسّن ظروف عيش ما بين 600 إلى 650 ألف نسمة، عبر خلق مناصب شغل مباشرة في الفلاحة والصناعة الغذائية، وأخرى غير مباشرة في شبكات التوزيع والدعم والخدمات، ما يعكس انتقال الاستثمار الزراعي إلى أداة فعّالة لتحقيق التنمية المستدامة في الجنوب الغربي.
علاوة على ذلك، شهد القطاع الصناعي قفزة نوعية مستقبلية مع انطلاق تجسيد فكرة المشروع الوطني لتصنيع بطاريات الليثيوم-الحديد-الفوسفات (LFP)، بقيادة البروفيسور كريم زغيب. المشروع يعتمد على استغلال ثلاث مواد متوفّرة محليًا: الليثيوم، الحديد، والفوسفور، ويمتد على مراحل متعدّدة بداية بإنتاج كاثودات البطاريات ثمّ التحكّم الكامل في سلسلة المعالجة محليًا. وفي هذا الإطار، لا يقتصر الطموح على تطوير التكنولوجيا فحسب، بل يُرتقب أن يوفّر القطاع المرتبط بهذه الصناعة ما بين 10 آلاف إلى 50 ألف وظيفة، تشمل مهندسين، تقنيين، عمال إنتاج وباحثين، ممّا يُمكّن الجزائر من دخول نادي الدول المصنّعة للبطاريات، ويُعزّز موقعها في سلاسل القيمة العالمية للطاقة النظيفة. كما أنّ المشروع يفتح الباب أمام تطوير صناعات تكميلية مثل السيارات الكهربائية، ما يعمّق البعد الاستراتيجي في الرؤية الصناعية الجديدة.ومن الناحية الاجتماعية، تُبرز هذه المشاريع أنّ التشغيل لم يعد مجرّد نتيجة عرضية، بل بات محورًا استراتيجيًا مدمجًا في كل رؤية استثمارية، سواء في الزراعة، التعدين أو الصناعة. إذ تسعى الدولة من خلال هذه الاستثمارات إلى خلق مناصب شغل نوعية تُقلّص من البطالة، وتُحسّن دخل الأسر، وتُعيد توزيع النشاط الاقتصادي على مناطق لطالما ظلت هامشية في مسارات التنمية. كما أنّ تحّسن القدرة الإنتاجية في الغذاء والطاقة والصناعة ينعكس إيجابيًا على القدرة الشرائية للمواطن، من خلال استقرار الأسعار وتقليص الاعتماد على الاستيراد.وبالنظر إلى التراكم في حجم المشاريع المعلنة والمنطلقة فعليًا، يمكن القول إنّ الجزائر دخلت مرحلة فعلية من إعادة التأسيس الاقتصادي، قائمة على الرؤية بعيدة المدى والاستغلال الأمثل للموارد الوطنية. وهذا التوجّه تعكسه كذلك تطورات مؤشّرات الاقتصاد الكلي، حيث يُنتظر أن تحقّق الجزائر نسب نمو مستدامة تفوق 4% في أفق 2030، مدفوعة بتوسّع قاعدة الإنتاج غير النفطي وزيادة نسبة التصنيع الداخلي.كذلك، ما يُميز هذه المرحلة ليس فقط حجم الاستثمارات، بل طبيعتها المندمجة والمرتبطة بمحيطها المجالي والاجتماعي، ما يجعل من كل مشروع لبنة في بناء اقتصاد قوي متنوع وقائم على التشغيل المحلي والاستغلال العقلاني للثروات، بما يُعزّز السيادة الاقتصادية الوطنية، وهو النموذج القابل للتصدير قاريا من أجل إفريقيا متكتلة ومتطورة في بيئة دولية شديدة التحول والتنافس.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025
العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025